أقول: إن ما جرى بين آدم وإبليس مِن حوار لم يكن عن طريق المقابلة، ولا عن طريق دخول إبليس الجنة عن طريق الحية أو غيرها، فهذا لم يحصل، وليس ثابتًا، وإن الجنة فعلًا محرمة على الكافرين؛ لذلك كان هذا الحوار بين آدم وإبليس على طريقة الحوار بين المؤمنين الذين في الجنة والكفار الذين في النار، الذي صوره لنا القُرْآن الكريم: ï´؟ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ï´¾ [الأعراف: 44]، فكان حوارًا لم يدخل أحدُ الطرفين مكان الآخر، وكذلك: ï´؟ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ï´¾ [الأعراف: 50]، الآيتان من سورة الأعراف، وهكذا كان الحوار وأهل الجنة في جنتهم، وأهل النار في نارهم، ومحرم عليهم دخول الجنة، فعلى مثل هذا التصور حصل الحوار بين آدم وإبليس، وحصولُ الإغواء دليل الضعف البشري أمام شهوة النفس.
وورد في التفسير أن آدم امتنع عن الأكل، لكن الحيلة انطلت على حواء، فتقدمت وأكلت من الشجرة، ثم قالت: يا آدم، كُلْ؛ فإني أكلت فلم يضرني - وهي صادقة - لأن المنع كان مرتبطًا بهما معًا، فلو أكل أحدهما ولم يأكل الآخر لم تحصل المخالفة؛ لأنها مشروطة بأكلهما معًا، وآيات المنع تنطق بهذا؛ قال الله تعالى: ï´؟ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ï´¾ [البقرة: 35]، وفي الأعراف: ï´؟ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ï´¾ [الأعراف: 19]، وخاطبهما إبليس معًا: ï´؟ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ï´¾ [الأعراف: 20]، ï´؟ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ï´¾ [الأعراف: 22]، وفي سورة طه: ï´؟ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ï´¾ [الأعراف: 22]، فلما أكلَتْ حواءُ مِن الشجرة وحدها لم يحصل لها التعرية، فاطمأنت لهذا، وأخبرت آدمَ أنها أكلت، ولم يحدُثْ شيء غير مألوف لها، وبهذا خدع آدم، وربما نسي أن المنع كان لكليهما معًا، فإن أكلا معًا وقعت المخالفة، فأكل آدم بعدها، وكان الزلزال؛ فبدَتْ لهما سوءاتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة.
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس، قال: "قال الله لآدم: ما حملك على أن أكلت من الشجرة التي نهيتُك عنها؟ قال: يا رب، زينته لي حواء، قال: فإني عاقبتُها بألا تحمل إلا كرهًا، ولا تضع إلا كرهًا، وأدميتها في كل شهر مرتين"، وأخرج البخاري ومسلم والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لولا بنو إسرائيل لم يخنَزِ اللحم - يفسد، ولولا حواءُ لم تخُنْ أنثى زوجها))، إشارة إلى سبقها آدم الأكل، أو طلبها منه؛ حيث قالت له: أكلتُ ولم يحدث شيء، فشجعته على الأكل، والخيانة هنا ليست الخيانة في العرض، وإنما ميل الأنثى لفرض رأيها على زوجها، ولو كانت على خطأ، قال ابن حجر: "وفي الحديث إشارة إلى تسلية الرجال فيما يقع لهم من نسائهم بما وقع من أمهن الكبرى، وأن ذلك في طبعهن، فلا يُفرِط في لوم مَن وقع منها شيء من غير قصد إليه"، الحديث الأول ليس بالقوي، ولو صححه الحاكم، وذكر ابن كثير ما يلي: "وكانت حواءُ أكلت من الشجرة قبل آدم، وهي التي حثته على أكلها، والله أعلم"، بَيْدَ أن القُرْآن عاتبهما كليهما، وهذا دليل الثنائية المشتركة في المخالفة، وآدم باعتباره الأصل فهو المسؤول الأول قبل حواء؛ ï´؟ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ï´¾ [الأعراف: 22، 23].
فالقُرْآن الكريم لم يتَّهِم حواءَ، ولم يذكر أنها هي البادئة، وإنما كان التركيز على ذكر آدم بأنه هو الذي عصى ربه، وهو الذي تاب، وزوجته كانت تبعًا له، وهذا يذكرنا بقوامة الرجل على المرأة، ومسؤوليته الأولى عن البيت، بينما يذكر القُرْآن الكريم فعل حمَّالة الحطب، زوجة أبي لهب؛ لِما لها من المشاركة الفاعلة في الإيذاء مع زوجها، ويذم زوجتي نوح ولوط؛ لخيانة كل منهما زوجه، ويمدح زوجة فرعون؛ لإيمانها وهي في وسط قوم كفار فلم تتأثر بهم، وظلت متمسكة بإيمانها إلى أن قضت نحبها، ولو كانت حواء هي السبب في جر آدم للأكل من الشجرة، لذُكرت؛ لأن أمر الإخراج أكثر أهمية مما عملته زوجتا نوح ولوط، إضافة إلى أنه عصيان لأمر الله، وانسياق مع متطلبات إبليس اللعين، وإخراج مهين لآدم من الجنة؛ قال الله تعالى: ï´؟ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ï´¾ [البقرة: 36]، ï´؟ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ï´¾ [البقرة: 37]، ï´؟ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ï´¾ [طه: 121، 122].
• هناك من يقول بأن آدم سبقه أكثر من آدم، وليس هو أول إنسان على الأرض، وذلك مستندًا إلى العثور على عظام بشرية قُدِّر تاريخها بأكثر من مليون سنة.
• وهذا خطأ فادح؛ فنص الآيات صريح بأن آدم النبي هو أول البشر الذين خلقهم الله تعالى، وخلق له زوجه في الجنة، ومنهما كان نسل الإنسان، ولا توجد إشارات من قريب أو بعيد لوجود إنسان قبل آدم، وهو حديث عهد بالأرض إذا قِيس بغيره من المخلوقات، أما التقديرات الجيولوجية لعمر الإنسان فهي ليست حجة، وهي تقريبية، وقد تحدث هزات أرضية فتنقل العظام إلى طبقات من الصخور قديمة؛ لذلك لا يقاس عمر العظام بعمر الطبقات المتشكلة التي تضم العظام، ولو تتبعنا الآثار التي خلفها الإنسان لدلت على زمن وجوده الحقيقي؛ فالباحثون وجدوا أن الآثار المصرية هي أقدم شيء خلفه الإنسان؛ فالإنسان منذ النشأة الأولى ترك شواهد وبصمات تدل على وجوده أينما حل وأينما ارتحل، وهو منذ أن درج على الأرض إنسان ناطق متعلم؛ ï´؟ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ï´¾ [البقرة: 31]، وآدم إضافة إلى أنه أبو البشر فهو أيضًا أول الأنبياء، فكان متعلمًا ناطقًا، له لغته التي يتخاطب بها، عارف بالأسماء ومسمياتها، ومن يظن أن الإنسان الأول على الأرض هو إنسان الكهوف الذي عاش كالحيوان ولم يعرف الحياة المدنية، أو لم يعرف النار والصناعات المناسبة له، فقد أخطأ كثيرًا، أما سكان الكهوف الذين لم يعرفوا اللغة والتخاطب بها، والذين عاشوا كالحيوانات يأكلون النِّيءَ من اللحم - فهم مِن الذين شذوا فيما بعدُ عن المجموعة الإنسانية وتفرَّقوا في الأرض، فأثر فيهم بعدُهم بفقدهم مقومات العيش الكريم، ونسيان ما كان أسلافهم عليه، فعاشوا عيشة الحيوانات، وأكبر المثل ما نجده في أواسط إفريقيا ومجاهل أستراليا من الأقوام البدائية في كل شيء، وحولهم بمسافات ليست بالبعيدة جدًّا أقوام في قمة التقدم، فلو أن غريبًا من الفضاء - على سبيل المثال - حطَّ بمركبته في وسط إفريقيا وشهِد القومَ ومعاشهم، ثم عاد إلى موطنه وأخبرهم بما شاهده، لقالوا: سكان الأرض هم صِنف من الحيوانات التي تحيا حياة متخلفة، ولو حط آخر وسط أوروبا أو الولايات المتحدة وشاهد الناس والعلم لقال: سكان الأرض في أحسن حال من العلم والمعرفة، وهم على درجة كبيرة من التقدم، فمَن كتب عن الإنسان الأول لم يشاهد إلا الأدوات الحجرية، ولكن أنَّى له أن يشاهد العلم والمعرفة، وقد أخبر الله عن قوة الأقوام الغابرين: ï´؟ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا ï´¾ [التوبة: 69]، ثم ذكَر هؤلاء الأقوام: ï´؟ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ ï´¾ [التوبة: 70]؟! أليست سفينةُ نوح مختَرَعًا مهمًّا في ذلك العصر؟! ونوح هو الأب الثاني للبشر بعد الطوفان، والمهم في هذه المناقشة أن البشر منذ سكناهم الأرض كانوا عنصرًا ذكيًّا ناشطًا متعلمًا،
د. محمد منير الجنباز