Warning: Division by zero in [path]/includes/class_postbit.php(294) : eval()'d code on line 80
تفسير الشيخ الشعراوى(سورة التوبة) 1-11 - منتدي عالمك
للنساء فقط

القرآن الكريم

كل ما يخص القرآن الكريم من تجويد وتفسير وكتابة, القرآن الكريم mp3,حفظ وتحميل واستماع. تفسير وحفظ القران,القران الكريم صوت,ادعية و اذكار يوجد هنا قراءة القرآن أدعية أذكار شريفة و أحاديث إسلامية,القران الكريم قراءة,انشطة حفظ القرآن الكريم و التفسير و التجويد,تنزيل القران الكريم على الجوال,القران الكريم بصوت احمد العجمي.

نسخ رابط الموضوع
https://vb.3almc.com/showthread.php?t=32646
504 1
08-26-2023
#1  

افتراضيتفسير الشيخ الشعراوى(سورة التوبة) 1-11


{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)}


البراءة- كما قلنا- هي انقطاع العصمة، والعصمة استمساك، والحق تبارك وتعالى يقول: {وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101].
وهو أيضا يقول: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 43].
إذن فالبراءة يلزم منها أنه كان هناك عهد واستمساك به، وجاءت البراءة من الاستمساك بهذا العهد الذي عهده رسول الله معهم، وكانوا معتصمين بالمعاهدة، ثم جاء الأمر الإلهي بقطع هذه المعاهدة. وكلمة (براءة) تجدها في (الدَّيْن) ويقال: (برئَ فلانٌ من الدَّيْن). أي أن الدَّيْنَ كان لازماً في رقبته، وحين سَدَّده وأدَّاه يقال: (برئ من الدَّين). ويُقال: (برئ فلان من المرض) إذا شُفِي منه أي أن المرضَ كان يستمسك به ثم انقطع الاستمساك بينه وبين المرض.



وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عاهد قريشاً وعاهد اليهود، ولم يُوَفِّ هؤلاء بالعهود، وكان لزاماً أن ينقض رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العهود.
وإذا سأل سائل: لماذا لم ينقض هذه العهود من البداية، ولماذا تأخر نقضه لها إلى السنة التاسعة من الهجرة. رغم أن مكة قد فتحت في العام الثامن من الهجرة؟
لقد حرر الرسول صلى الله عليه وسلم الكعبة من الأصنام والوثنية، وبعد أن استقرت دولة الإسلام بدأ تحرير (المكين) وهو الإنسان الذي يحيا بجانب البيت الحرام، وكان لابد من تصفية تجعل المؤمنين في جانب، والكفار وأهل الكتاب والمنافقين في جانب آخر، وقد حدث هذا في العام التاسع من الهجرة حتى لا يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا والمكان محرر والمسجد محرر والناس محررون، ولذلك أوضح سبحانه وتعالى بهذه الآية لأصحاب العهود التي كانت بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم: أنتم لستم أهلاً للأمان ولا للوفاء بالعهود؛ لذلك نحن قد قطعنا هذه العهود. وهذه القطيعة ليست من إرادة بشرية من محمد وأصحابه ولكنها قطيعة بأمر الله تعالى، فقد يجوز أن يعرف البشر شيئاً ويَغيب عنهم أشياء. لكن العالم الأعلى قال: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1].


ولم يقل براءة من الله وبراءة من الرسول، ذلك لأنها براءة واحدة، والبراءة صادرة من الله المشرع الأعلى، ومبلغة من الرسول الخاتم، والبراءة موجهة إلى المشركين الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حلف مع قبيلة خزاعة، وكانت هناك قبيلة مضادة لها اسمها قبيلة بكر متحالفة مع قريش. وقد أعانت قريش قبيلة بكر على قبيلة خزاعة، فذهب إلى المدينة شاعر من خزاعة هو عمرو بن سالم الخزاعي وقال القصيدة المشهورة ومنها هذه الأبيات:
يا رب إنّي ناشدٌ مُحَّمدا ** حلف أبينا وأبيه الأ تلَدا

كُنت لنا أباً وكنَّا ولدا ** ثُمَّتَ أسلمنا ولم ننزع يدا
فانصر هداك الله نَصْراً عتدا ** وادع عباد الله يأتوا مددَا
إن قريشاً أخلفُوك الموعدا ** ونَقَضُوا ميثاقَك المؤكَّدا
هم بيتونا بالوتير هُجَّدا ** وقتلونا ركَّعاً وسُجَّدا
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال: نصرت يا عمرو بن سالم، لا نصرت إن لم أنصرك.


إذن فالمشركون هم الذين نقضوا العهد أولاً، وصاروا لا يؤمن لهم جانب لأنهم لا يحترمون عهداً أو معاهدة، ونزل قول الحق سبحانه وتعالى: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} [التوبة: 1].
الخطاب هنا للمسلمين، والبراءة من المشركين.


{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)}
والخطاب هنا للمشركين. وتساءل البعض: كيف يتأتى أن يكون خطاب الحق في الآية الأولى للمسلمين بالبراءة من المشركين، ثم يأتي خطاب من الله للمشركين؟.

وقال بعض العلماء إنه ما ما دامت البراءة قد صدرت من الله، فكأن الله تعالى يقول للمؤمنين قولوا للمشركين: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2].
ولكننا نرد على هذا بأن المعاهدة تكون بين اثنين، ولذلك لابد أن يكون هناك خطاب للذين قطعوا، وخطاب للمقطوعين، ويتمثل خطاب الذين قطعوا في قوله تعالى: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} [التوبة: 1].
وخطابه للمقطوعين يتمثل في قوله سبحانه وتعالى: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2].



ومن سماحة هذا الدين الذي أنزله الحق تبارك وتعالى؛ أن المولى سبحانه يعطي مهلة لمن قطعت المعاهدة معهم، فأعطاهم مهلة أربعة أشهر حتى لا يقال إن الإسلام أخذهم على غرة، بل أعطاهم أربعة أشهر ومن كانت مدة عهد أكثر من أربعة أشهر فسوف يستمر العهد إلى ميعاده.
{فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2].

وكلمة (فسيحوا) تعطي ضماناً إيمانيا، ف (ساح) معناها سار ببطء، وهناك (ساح الشيء) و(سال الشي) عندما تقول: (سال الماء) أي تدفق وسال، وأنت تشاهده سائلا. وإن قلت: (ساح السمن) أي سار ببطء لا يدرك حتى صار سائلا.


ولماذا قال الحق سبحانه وتعالى: {فَسِيحُواْ فِي الأرض}؟.
والإجابة: أن سماحة الإسلام تمنع أن نأخذكم على غرة، وعلى الذين قطع الإسلام معهم العهد أن يسيروا وهم مطمئنون وفي أمن وأمان ولا يتعرض لهم أحد. ووقف العلماء عند تحديد أربعة الأشهر، ونظر بعضهم إلى تاريخ النزول، وقد نزلت هذه الآية في شوال؛ إذن فتكون الأشهر الأربعة هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
وقال علماء آخرون: إن ساعة النزول لا علاقة لها بالأشهر الأربعة، وإن الأشهر الأربعة تبدأ من ساعة الإبلاغ أي في الحج؛ لأن الله تعالى يقول: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر} [التوبة: 3].
وعلى ذلك فتكون من يوم العاشر من ذي الحجة إلى يوم العاشر من ربيع الآخر. وقال بعض العلماء: إن نزول هذه الآية كان في عام النسيء الذي كان الكفار يؤخرون ويقدمون في الأشهر الحرم، والذي قال فيه الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} [التوبة: 37].



وأضاف صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي رواه أبو بكرة حيث قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: (ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان).
أي أنه صلى الله عليه وسلم حسب من بداية الكون إلى هذا الوقت فرجع بالأمر إلى نصابه وألغي النسيء؛ هذا النسيء الذي كانوا يقررونه أيام الشرك لتقديم أو لتأخير الأشهر الحرم؛ لأنهم كانوا إذا أتت الأشهر الحرم ويريدون الحرب يؤجلون الشهر الحرام حتى يمكنهم الاستمرار في الحرب. ولذلك كان الحج في هذه السنة في شهر ذي القعدة. وما دام الحج في شهر ذي القعدة، تنتهي الشهور الأربعة في العاشر من ربيع الأول. وقيل إن اختيار أربعة الأشهر جاء ليوافق ما شرعه الله في قوله سبحانه تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36].
فيكون عدد الأشهر مناسبا لعدد الأشهر الحرم. ولكن هذه المرة فيها ثلاثة أشهر حرم فقط هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والشهر الرابع هو رجب فكيف يقال أربعة؟
ونقول: إن الأشهر الأربعة الحرم التي فيها رجب هي الأشهر الحرم الدائمة، أمّا الأشهر الأربعة التي ذكرت في هذه الآية فهي أربعة أشهر للعهد تنتهي بانتهائها، ولكن أربعة الأشهر الحرم الأصلية تبقى محرمة دائماً، ولقد شرع الله عز وجل الأشهر الحرم ليحرم دماء الناس من الناس؛ ذلك أن الحروب بين العرب كانت تستمر سنوات طويلة دون نصر حاسم. فجعل الله الأشهر الحرم حتى يجنح الناس إلى السلم، ويتحكم فيها العقل وتنتهي الحروب.



وهنا يبلغنا الحق تبارك وتعالى أنه قد أعطى المشركين أربعة أشهر يسيرون فيها آمنين، لماذا؟
لأن الذي يكون ضعيفا مع خصمه ينتهز أي فرصة يقدر عليه فيها ليستغلها ويقضي عليه، ولا يمهله أربعة أشهر حتى ولا أربعة أيام. ولكن القوي لا يبالي بمد الأجل لخصمه لأنه يستطيع أن يأتي به في أية لحظة. لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} [التوبة: 2].


ويقال فلان أعجز فلاناً، أي جعله ضعيفا عاجزاً. ولذلك فإن كلّ شيء مُعجز شرف للمُعْجَز، والمثال: عندما جاء القرآن الكريم معجزاً للعرب وكان ذلك شرفا لهم لأنهم كانوا أمة بلاغةٍ وفصاحةٍ. والله لا يتحدى الضعيف وإنما يتحدى القوي، فلغة القرآن أعجزت الفصيح والبليغ. وحين يعطي الحق سبحانه وتعالى هذه المهلة للمشركين إنما كانت ببنود معينة، وكان أمير الحج في هذا العام سيدُنا أبو بكر وكان هو الذي سيبلغ البراءة. وهي أنه لا يدخل المسجد الحرام مشرك ولا يحج مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولن يدخل الجنة إلا من آمن، هذه هي البنود.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بفطنته النبوية كان يعرف أن العرب لا يقبلون نقض العهود والمواثيق إلا من أهلها: فأرسل صلى الله عليه وسلم سيدنا عليا بن أبي طالب ليعلن نقض العهود؛ لأنه علم أن الكفار كانوا سيقولون: لا نقبل نقض العهد من أبي بكر، بل لابد أن يكون من واحد من آل الناقض.



وحينما قال المولى سبحانه وتعالى: {واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} [التوبة: 2].
أعطى هذه المهلة الطويلة، لأنهم مهما فعلوا في هذه المهلة، فالله غالب على أمره. فلن يفوت أو يغيب شيء عنه سبحانه وتعالى، ومهما حاولوا أن يجدوا حلفاء لهم فلن يستطيعوا شيئا مع الله، صحيح أنهم ضعاف في هذه الفترة، وصحيح أنَّ الضعيف قد تكون قدرته على القوي مميتة لأنه يعرف أن فرصته واحدة، وإن لم يقدر على خصمه فسوف ينتهي، لكن الله غالب على أمره. وأراد الشاعر العربي أن يعبر عن ذلك فقال:
وضعيفة فإذا أصابت فرصة ** قتلت كذلك قدرة الضعفاء

لأن الضعيف ينتهز الفرصة ليقضي على خصمه. أما القوي فيعرف أنه قادر على خصمه في أي وقت، ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين} [التوبة: 2].
الإخزاء هو الإذلال بفضيحة وعار ولا يكون ذلك إلا لمن كان متكبراً متعالياً. أي أن الله قادر على أن يخزي الكفار بفضيحة وعار مهما بلغت قوتهم وكبرهم.

{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)}

وبعض الناس يقول ما دام الله تعالى قد قال: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1].
فلماذا يعيد سبحانه وتعالى: {أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3].

ونقول: إن البراءة جاءت إعلاماً بالمبدأ، والأذن جاء لإبلاغ البراءة، و(أذان) معناها إعلام يبلغ للناس كلهم، تماماً كأذان الصلاة؛ فهو إعلام للناس بدخول وقت الصلاة. والأذان مأخوذ من الأذن. لأن الإنسان حين يعلم الناس بشيء لابد أن يخطب فيهم فيسمعون كلامه بآذانهم، ولذلك تجد الأذن هي الوسيلة الأولى للإدراك، فقبل أن ترى تسمع، وقبل أن تتكلم لابد أن تسمع، فإن لم تسمع من يتكلم لا تقدر أنت على الكلام. ولذلك يقول الحق جل جلاله: {صُمٌّ بُكْمٌ} [البقرة: 18].
أي لا يسمعون، وما داموا لا يسمعون لا يتكلمون. وقد يأتي بعض الناس ويقول: إنَّ وسيلة الإعلام قد تعتمد على العين ويقرأ منها الإنسان. ولكن من يقول ذلك ينسى أن الإنسان لا يستطيع أن يقرأ إلا إذا سمع ألفاظ الحروف، وحين يقال له: هذه ألف وهذه باء وهذه تاء فهو يتعلم. إذن كل بلاغ إنما يبدأ بالأذن، والأذن هي أول آلة إدراكية تؤدي مهمتها فور ولادة الإنسان؛ لأنك إن أشرت بأصبعك إلى عيني طفل مضى على ولادته أيام لا يتأثر. ذلك أن العين لا تبدأ في أداء مهمتها قبل بضعة أيام، ولكن إذا صرخت بجوار الطفل يسمع وينزعج.



والله سبحانه وتعالى حين يتحدث عن وسائل الإدراك يأتي بالسمع أولاً فيقول جل جلاله: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78].
لأن الأذن تبدأ عملها فوراً- كما قلنا- والعين لا تبدأ عملها إلا بعد أربعة أو خمسة أيام. والأذن تستقبل بها أصواتاً متعددة في وقت واحد. ولكن مجال الرؤية محدود.

وأنت حين لا تريد أن ترى شيئا تبعد عينيك عنه. ولكن الأصوات تصل إلى أذنك من كل مكان دون أن تستطيع منعها.
ولذلك يأتي السمع مفرداً، والأبصار متعددة؛ لأن هذا يرى شيئاً وهذا يرى شيئاً. لكنك بالأذن تسمع نائماً أو متيقظاً، وتأتيك الأصوات ويتوحد المدرك من السمع؛ فهي آلة الاستدعاء والإيقاظ. ولذلك حين تكلم الله عن أهل الكهف يريد أن ينيمهم ثلثمائة سنة وازدادوا تسعا. رغم أن أقصى ما ينامه الإنسان هو يوم أو بعض يوم، قال سبحانه وتعالى عنهم في هذا الشأن: {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً} [الكهف: 11].
وكان الضرب على الآذان حتى لا يوقظهم صوت عال لإنسان أو حيوان. وهم عندما قاموا: {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19].
لأن الإنسان عادة لا ينام أكثر من هذه المدة، وهذا يدل على أنهم حين استيقظوا كانوا على الهيئة التي ناموا عليها لم يتغير فيهم شيء، مما يدل على أن الله أوقف تأثير الزمن عليهم، ولولا أن الله قد ضرب على آذانهم لأيقظهم صوت الرعد أو الحيوانات المفترسة أو غيرها من الأصوات.
وأثبت لنا العلم الحديث أن مَنْ يرقد في الفراش بسبب المرض مدة طويلة يخاف الأطباء من إصابته بقروح الفراش، فلا يخاف الطبيب على المريض من المرض فقط، بل يخاف أيضاً من آثار الرقود على الجسد. والله يلفتنا إلى هذه الحقيقة فيقول: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال} [الكهف: 18].



ولأن الأذن هي وسيلة السمع، نجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {إِذَا السمآء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 1-2].
وهذا القول يدل على أن السماء فور سماعها من الله أمره بأن تنشق؛ تستجيب على الفور وتطيع أمره بالانشقاق وذلك يوم القيامة، وإذا كان الذي بلغ الأذان من الله ورسوله إلى كل الناس يوم الحج هو علي بن أبي طالب؛ فكيف يقال؟
{وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3].
نقول: إن الله تعالى أعلم رسوله، والرسول صلى الله عليه وسلم أعلم عليا، وعلي هو الذي نادى وبلَّغ، لكن هناك من يقول: إن الله طلب البلاغ إلى الناس. مع أن البراءة كانت للمشركين.



ونقول: إن الإعلام كان لكل الناس للمؤمن وغير المؤمن حتى يعرف جميع الناس موقفهم؛ فيعرف المؤمن أن العهد قد قطع، ويعرف غير المؤمن أن العهد قد قطع، فلا يؤخذ أحد على غرة، وليرتب كل إنسان موقفه في ضوء البلاغ الصادر من الله عز وجل؛ والله سبحانه وتعالى أراد اعتدال الميزان بأيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك فهو لا يخاطب المؤمنين وحدهم، بل كان الخطاب للعالم كله، وإن كان المؤمنون هم الذين سيجاهدون لتنسجم حركة الأرض مع منهج السماء. ومن هذا يستفيذ المؤمن والكافر؛ لأن الكل سينتفع بالعدل والأمانة والنزاهة التي يضعها المنهج على الأرض.
ولذلك يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالمنهج لإصلاح الكون كله فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله} [النساء: 105].
أي أن الحكم بين الناس جميعاً هو المطلوب من رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب منهج السماء.



وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر} [التوبة: 3].
وهذا القول فيه تعميم في المكان وتعميم في المكين، فيوم الحج يجتمع الناس كلهم في مكان واحد.



وقد يتساءل البعض: لماذا سمي الحج الأكبر؟
نقول: لأنه الحج الوحيد الذي اجتمع فيه الكفار والمؤمنون. وبعد ذلك لم يعد هناك حج للكفار أو المشركين.
وبعض المفسرين يقولون: إن كلمة الحج الأكبر جاءت لتميز بين الحج الأصغر وهي العمرة وبين الحج الذي يكون فيه الوقوف بعرفات، ونقول: إن العمرة لا يطلق عليها الحج الأصغر.



وقيل إنَّ يوم الحج الأكبر هو يوم عرفة. ولكن بعض العلماء قالوا: إنه يوم النحر؛ لأن فيه مناسك كثيرة: رمي الجمرات والتقصير وطواف الإفاضة؛ لذلك سمي يوم النحر بالحج الأكب لكثرة مناسكه، وقيل: إنها أيام الحج كلها وأنها قد سميت بيوم الحج على طريقة العرب في أداء الحدث الواحد بظرفه الملائم، ألم يقل الحق سبحانه وتعالى: يوم حنين؟. وحنين استغرقت أياماً فكأن اليوم يراد به الظرف الجامع لحدث كبير، فكأن أيام الحج كلها يطلق عليها (يوم الحج).
أو أن الإعلان قاله سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم عرفة، وبلغ هذا الإعلام كل من سمعه إلى غيره، والآية الكريمة تقول: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3].
وهذا إذن من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن رسوله إلى علي كرم الله وجهه، ومن علي للمؤمنين، ومن المؤمنين؛ من سمع لمن لم يسمع، أن الله بريء من المشركين، وكان هذا إعلانا بالقطيعة، ولكن الله برحمته لا يغلق الباب أمام عباده أبداً، ولذلك يقول:
{فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [التوبة: 3].
أي فتح لهم باب التوبة فإن تابوا عفا الله عنهم، وإن لم يتوبوا فالقول الفصل هو: {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3].
إذن فالحق سبحانه وتعالى قادر عليهم وقادر أن يأتي بهم مهما كانوا، وعلى النبي والمبلغين عنه أن يبشروا الكفار بالعذاب الأليم، والبشارة إعلام بخبر سار، والإنذار إخبار بسوء. فهل العذاب بشارة أم إنذار؟. نقول: إن هذا هو جمال أسلوب القرآن الكريم، يبشر الكفار فيتوقعون خبراً سارا: ثم يعطيهم الخبر السيئ بالعذاب الذي ينتظرهم؛ تماماً كما تأتي إلى إنسان يعاني من العطش الشديد، ثم تأتي بكوب ماء مثلج وعندما تصل به إليه ويكاد يلمس فمه تفرغه على الأرض، فيكون هذا زيادة في التعذيب وزيادة في الحسرة، فالنفس تنبسط أولاً ثم يأتي القبض.
وفي هذا يقول الشاعر:
كما أبرقت قوماً عطاشاً غمامةٌ ** فَلَمَّا رَأَوْها أقْشَعتْ وتَجلَّتِ

وهكذا تكون اللذعة لذعتين، ابتداء مطمع، وإنتهاء ميئس بينما في الإنذار لذعة واحدة فقط. وانظر إلى قوله الحق تبارك وتعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ} [الكهف: 29].
حين تسمع (يغاثوا) تتوقع الفرج فيأتي الجواب: {يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه} [الكهف: 29].



وهنا يقول الحق تبارك وتعالى:{وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3].
والعذاب من الله يوصف مرة بأنه عظيم ومرة أخرى يوصف بأنه مهين وثالثة يوصف بأنه أليم، والسبب هو أن الوصف يختلف باختلاف المُعَذَّبين، وسيأخذ كل مسيء وعاص وكافر من العذاب ما يناسبه، فهناك إنسان يحتمل العذاب ولا يحتمل الإهانة، وهناك إنسان يحتمل الإهانة ولا يحتمل الألم، فكأن كل واحد من الناس سيأتيه العذاب الذي يتعبه، فإن كان لا يتعبه إلا العذاب العظيم جاءه، وإن كان لا يتعبه إلا الإهانة جاءته، وإن كان لا يتعبه إلا الألم جاءه.



{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)}
هذا استثناء، ولكنه استثناء مشروط بأن هؤلاء كانوا أمناء على العهد وموفين به ولم ينقصوا منه شيئا، أي لم يصدوا لكم تجارة ولم يستولوا على أغنام ولم يسرقوا أسلحتكم ولم يغروا بكم أحداً ولم يظاهروا عليكم أحداً؛ وهؤلاء هم بنو ضمرة وبنو كنانة، فلم يحث منهم شيء ضد المؤمنين فجاء الأمر بأن يستمر العهد معهم إلى مدته. ولقائل أن يقول: إن المستثنى يقتضي مستثنى منه،، ونقول: المستثنى منه هم المشركون في قوله الحق تبارك وتعالى: {إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً} [التوبة: 4].
والإنقاص معناه تقليل الكمّ إمَّا في الذوات، وإما في متعلقات الذوات، والإنقاص في الذوات يكون بالقتل، والإنقاص في متعلقات الذوات يكون بمصادرة التجارة أو الماشية، وسرقة السلاح.
إذن ففي الإنقاص هنا مرحلتان؛ مرحلة في الذوات أي بالقتل، ومرحلة في تابع الذوات وهي الأشياء المملوكة، ولذلك قال: {لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} أي شيء كان، سواء في الذوات أو متعلقات الذوات، وأيضا لم يغروا عليكم أحداً ولم يشجعوا أحداً على أي عمل ضد الرسول.

{وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً} [التوبة: 4].
ويظاهر أي يعادل، وكلها مأخوذة من مادة الظهر، وهو يتحمل أكثر من اليد، فالإنسان لا يقدر أن يحمل جوال قمح بيده مثلا، ولكنه يقدر أن يحمله على ظهره. ولذلك يقول المثل العامي: من له ظهر لا يضرب على بطنه. إذن فالظهر للمعونة. والحق يقول: {فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} [الصف: 14].
أي عالين.
والحق سبحانه وتعالى حين قص علينا نبأ تآمر بعض من نساء النبي صلى الله عليه وسلم عليه، قال: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4].
فظهير في الآية الكريمة أي معين. ويأتي الحق هنا إلى منطقة القوة في الإنسان، لذلك يقال: فلان يشد ظهري. أي يعاونني بقوة. ويقال: ظهر فلان على فلان. أي غلبه وتفوق عليه، ويقال: وعلا ظهره. أي استولى على منطقة القوة منه؛ لذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم في سورة الكهف عن ذي القرنين ذكر بعض اللقطات وقال: {حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} [الكهف: 93-95].
فالله سبحانه وتعالى لفتنا هنا إلى حقيقة علمية لم نعرفها إلا في العصر الحديث. فالسد إذا كان كله من مادة صلبة؛ يتعرض للانهيار إذا ما جاءت هزة أثرت في كل جوانبه، أما إن كان هناك جزء من بناء صلب على الحافة، وجزء صغير في المنتصف وجزء ثالث، ثم رابع، ويفصل بين كُلٍّ جزء ردم من تراب فالردم فيه تنفسات بحيث يمتص الصدمة، وهي نفس فكرة الإسفنج التي نحيط بها الأشياء التي نخاف عليها من الكسر لنحفظها، فلو أن الصندوق من الخشب أو الحديد أو أي مادة صلبة لتحطم الشيء الموضوع فيه بمجرد اصطدامه بالأرض صدمة قوية، ولكن إذا أحطناه بوسادة من الإسفنج فهي تمتص الصدمات.
وأنواع السدود التي تتلقى الصدمات يقال عنها: السد الركامي.
ونلتفت إلى قول الحق سبحانه: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} [الكهف: 95].
وهذا يدلنا على أن القوي يجب أن يعين الضعيف معونة لا تحوجه له مرة أخرى؛ لذلك يقال: لا تعط الجائع سمكة؛ ولكن علمه أن يصطاد السمك ليعتمد على نفسه بعد ذلك، وهذه هي المعونة الصحيحة، ولذلك نجد أن ذا القرنين رفض أن يأخذ مقابلا لبناء الردم؛ لأن مهمة الأقوياء في الأرض من أصحاب الطاقة الإيمانية أن يمنعوا الظلم بلا مقابل حتى يعتدل ميزان الحياة؛ لأن الضعيف قد لا يملك ما يدفعه للقوي. ولو أن كل قَوِيٍّ أراد ثمناً لنصرة الضعيف لاختل ميزان الكون وطغى الناس، ولكن الأقوياء في عالمنا يريدون أن يظلموا بقوتهم؛ لذلك يختل ميزان الكون الذي نعيش فيه. ولننظر إلى تفويض الله لذي القرنين وكيف أحسن ذو القرنين الحكم بين الناس، وأقام العدل فيهم وكيف ترصد الظالمين، قال القرآن الكريم على لسان ذي القرنين: {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} [الكهف: 87-88].
هكذا أقام ذو القرنين العدل، بتعذيب الظالم وتكريم المؤمن صاحب العمل الصالح.



وقول الحق سبحانه وتعالى على لسان ذي القرنين: (أعينوني) يعطينا كيفية إدارة العدل في الكون، فذلك الذي أعطاه الله الأسباب إن أراد أن يعين الضعفاء فعليه أن يشركهم في العمل معه، ولا يعمل هو وهم يتفرجون وإلاَّ تعودوا على الكسل فتفسد همة كل منهم. ولكن إذا جعلهم يعملون معه سيتعلمون العمل ثم يتقنونه فتزداد مهارتهم وقوتهم في مواجهة الحياة؛ لذلك نجد أن ذا القرنين أشرك معه الضعفاء، وقال لهم: {آتُونِي زُبَرَ الحديد} [الكهف: 96].
إذن فقد جعلهم يعملون معه ويبنون، وهذه أمانة القوي فيما آتاه الله تعالى من القوة، بل إننا نجده قد تفاهم معهم رغم أن الحق تبارك وتعالى قال فيهم: {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} [الكهف: 93].
كيف تفاهم معهم؟ لعله استخدم لغة الإشارة وتحايل ليفهموا مقصده. ويدلنا القرآن على تفهمهم له أن قال الحق على لسانهم: {قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} [الكهف: 94].



قد تَمَّ بناء السد بمعاونة هؤلاء الضعفاء، وكان بناء هذا السد بصورة تتحدى طاقة العدوان في كل من يأجوج ومأجوج، وقد حاول كل منهما أن يصعد فوق السد ليتغلب عليه، ولكنه كان فوق طاقة كل منهما فلم يستطيعا اختراقه، وهذا وضحه لنا المولى سبحانه وتعالى في قوله: {فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً} [الكهف: 97].


إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4].
أي لم يعينوا ولم يساعدوا أحداً من أعدائكم حتى يتغلب عليكم، وسماحته سبحانه وتعالى بإتمام مدة العهد تعني أن هذه المدة كانت أكثر من أربعة أشهر. وهكذا يعطينا سبحانه جلال عدالته، فسمح لمن كان العهد معهم أقل من أربعة أشهر، أن يأخذوا مهلة أربعة أشهر، والحق سبحانه لا يحب نقض العهد؛ لذلك طلب من المؤمنين أن يعطوا المشركين الذين عاهدوهم مدة العهد ولو كانت أكثر من أربعة أشهر؛ حتى يتعلم المؤمن أن يُوفِيَ بالعهد ما دام الطرف الآخر يحترمه. وزيادة المدة هنا؛ أو زيادة المهلة نابعة من قوة الله تعالى وقدرته؛ لأن كل من في الأرض غير معجزي الله، فإن طالت المدة أو قصرت فلن تعطي المشركين ميزة ما، فالله يستطيع أن ينالهم في أي وقت وفي أي مكان.



ويختم الحق سبحانه وتعالى الآية بقوله: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} [التوبة: 4].
والمتقون هم الذين يجعلون بينهم وبين أي شيء، يغضب الله وقاية. وإن تعجب بعض الناس من قول الحق سبحانه وتعالى: {واتقوا الله} وقوله: {واتقوا النار} فإننا نقول: إن معنى {اتقوا الله} أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجبروت لله وقاية، اتقوا صفات الجبروت في الله حتى لا يصيبكم عذابه، فلله صفات جلال منها المنتقم والجبار والقهار، وله صفات جمال مثل الرحيم، والوهاب، الرزاق، الفتاح، إذن اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال في الله وقاية لكم وحماية من أن تتعرضوا لغضب الله تعالى، والإنسان يتقي صفات الجلال في الله بأن يتبع منهجه ويطيعه في كل ما أمر به لينال من فيض صفات الجمال. وقوله الحق سبحانه وتعالى: {واتقوا النار} أي اجعلوا بينكم وبين النار وقاية حتى لا تمسكم النار


{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}

و(انسلخ) يعني انقضت وانتهت الأشهر الحرم، ومادة (سلخ) و(انسلخ) تدور كلها حول نزع شيء ملتصق بشيء، فتقول: (سلخت الشاة) أي نزعت الجلد عن اللحم، والجلد يكون ملتصقا باللحم شديداً. فكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن الأشهر الحرم هي زمان، والزمان ظرف، فالناس مظروفون في الزمان والمكان، فكأن الأشهر الحرم تحيطهم كوقاية لهم من المؤمنين، فإذا مرت الأشهر الحرم تزول هذه الوقاية عنهم بعد أن كانت ملتصقة بهم، والانسلاخ له معنيان: فمرة يقال ينسلخ الشيء عن الشيء، ومرة يقال: ينسلخ الشيء من الشيء، ولذلك تجد في القرآن الكريم تبارك وتعالى: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا} [الأعراف: 175].
وهذه الآية الكريمة التي نزلت في ابن باعوراء الذي أعطاه الله العلم والحكمة والآيات، ولكنه تهاون فيها وتركها، فكأنه هو الذي انسلخ بإرادته وليست هي التي انسلخت منه، وصار بذلك مقابلا للشاة، ونحن نسلخ جلد الشاة من الشاة.
والحق سبحانه وتعالى أيضا يقول: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37].
فكأن الليل مثل الذبيحة، ثم يأتي النهار فيسلخ منه الظلمة وبزيلها عنه ويأتي بالضياء، فكأن الليل ثوب أسود يأتي عليه ثوب أبيض هو النهار، فإذا جاء ميعاد الليل رفع الثوب الأبيض أو سلخ النور عن ظمة الليل؛ لتصبح الدنيا مليئة بظلام الليل، وكأن النور هو الذي يطرأ على الظلمة فيكسوها بياضا، أي أن الضوء هو الذي يأتي ويذهب، بينما الظلمة موجودة، فإذا جاءها ضوء الشمس صارت نهارا، وإذا انسلخ منها صارت ليلاً.
وماذا يحدث عندما تنتهي الأشهر الحرم؟ يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5].



فكأن الله سبحانه وتعالى بعد أن أعطى المشركين مهلة أربعة أشهر، والذين لهم عهد أكثر من ذلك يتركون إلى أن تنتهي مدة العهد، ومن بعد ذلك يكون عقاب المشرك هو القتل، لماذا؟ لأنه لا يجتمع في هذا المكان دينان.
ولقائل أن يقول: وأين هي حرية التدين؟ ونقول: فيه فرق بين بيئة نزل فيها القرآن بلغة أهلها؛ وعلى رسول من أنفسهم، أي يعرفونه جيدا ويعرفون تاريخه وماضيه، وبيئة لها أحكامها الخاصة بحكم التنزيل، فأولئك الذين نزل القرآن في أرضهم وجاءت الرسالة على رسول منهم وهو موضع ثقة يعرفون صدقة وأمانته ويأتمنونه على كل نفيس وغال يملكونه، وكان كل ذلك مقدمة للرسالة، وكانت المقدمة كفيلة إذا قال لهم إنني رسول الله لم يكذبوه؛ لأنه إذا لم يكن قد كذب عليهم طوال أربعين سنة عاشها بينهم، فهل يكذب على الله؟ الذي لا يكذب على المخلوق أيكذب على الله؟ هذا كلام لا يتفق مع العقل والمنطق؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128].
أي ليس غريبا عليكم، تعرفونه جيدا حتى إنكم كنتم تأتمنونه على أغلى ما تملكون، وتلقبونه بالأمين في كل شئون الدنيا، فكيف ينقلب الأمين غير صادق عندكم؟ كما أن القرآن الكريم وهو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء بلغتكم وأسلوبه من جنس ما نبغتم فيه، فكان إعجازاً لكم، وتحداكم الله تعالى بأن تأتوا بسورة من مثله فعجزتم وأنتم ملوك البلاغة والفصاحة، فكأن الإعجاز من أمانة الرسول وصدقه، والإعجاز من بلاغة القرآن وتحديه يقتضي منكم الإيمان فيكون عدم الإيمان هنا مكابرة تقتضي عقاباً صارماً.



فإن سأل سائل: أين هي حرية التدين؟ وأين تطبيق قول الحق تبارك وتعالى؟ {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} [البقرة: 256].
نقول: نعم، لا إكراه في أن تؤمن بالله وتؤمن بدينه، ولكن ما دمت قد آمنت فلابد أن تلتزم بما يوجبه هذا الإيمان، أما عند التفكير في مبدأ التدين فأنت حر في أن تؤمن بالله أو لا تؤمن.
ولكن إذا آمنت فالواجب أن نطلب منك أن تلتزم. ثم إن الحق سبحانه وتعالى شاء ألاَّ يجتمع في الجزيرة العربية دينان أبداً.
ولكن في أيِّ مكان آخر مثل فارس، الروم، فهم لن يعرفوا إعجاز القرآن الكريم كلغة، ولكن يسمعون أنَّه معانٍ سامية بقوانين فعالة تنظم الحياة وترتقي بها.
أما الذين يعرفون الرسول وفصاحة المعجزة التي جاء بها، فلن يُقبل منهم إلاَّ أن يسلموا، ولا يُقبل منهم أن يظلوا في أرض الرسالة دون إسلام، وإن أرادوا أن يظلوا على الشرك فليرحلوا بعيداً عن هذه الأرض.



وهناك من يقول: إنَّ الإسلام انتشر بالسيف أو الجزية،
ونقول: إن الإسلام انتشر بالقدوة، أما السيف فكان دفاعاً عن حق اختيار العقيدة في البلاد التي دخلها الإسلام فاتحاً، والجزية كانت لقاء حماية من يريد أن يبقى على دينه.
ونجد في حياتنا اليومية من يستخدم {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} في غير موضعها، فحين يقول مسلم لآخر: لماذا لا تصلي؟ يرد عليه بهذا القول: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين}. ونقول: إن {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} مسألة تخص قمة التدين، أي مسألة اعترافك بأنك مسلم أو غير ذلك، لكن ما دمت قد أعلنت الإسلام وحُسبت على المسلمين، فعليك الالتزام بما فرضه عليك الدين فلا تشرب الخمر ولا تزن، إذن ف {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} تعني لا إكراه على اختيار الإسلام، ولكن لابد من الحرص ممن أعلنوا الإسلام على مطلوبات الدين.
إذن فلماذا أُكْرِه العرب على الإسلام؟
قيل في ذلك سببان: الأول أن الرسول صلى الله عليه وسلم منهم،

والثاني أنَّ المعجزة جاءت بلسانهم.


ويتابع الحق سبحانه وتعالى قوله: {وَخُذُوهُمْ واحصروهم} [التوبة: 5].
فإن عز عليكم أن تقتلوهم فخذوهم أسرى؛ ما داموا لم يدافعوا عن أنفسهم بقتالكم، ولم يهددوكم في حياتكم، وهنا يحقن الدم ويستفاد بهم كأسرى.
وإن خفتم من شرورهم فاحصروهم في مكان مراقب. إذا قاموا بأي حركة معادية يكون من السهل عليكم كشفها، وإنزال العقاب بهم. والحصر هنا تقييد الحركة مع السماح لهم بحركة محدودة بحيث لا يغيبون عن نظركم.
ثم يتابع المولى سبحانه وتعالى قوله: {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5].
أي ارصدوا حركاتهم حتى تأمنوا مكرهم؛ وحتى لا يتصل بعضهم بالبعض الآخر، وينشئوا تكتلاً يعادي الإسلام. ارصدوا حركاتهم، وارصدوا كلامهم، وارصدوا أفعالهم، ولا تجعلوهم يخرجون عن رقابتكم وافعلوا ما بوسعكم لتكونوا في مأمن من شرورهم، ولكن لا تخوجوا بالاستطلاع إلى حيز استذلالهم، فالاستدلال غير الاستذلال.
وقد يتساءل البعض: لماذا هذا الاختلاف في العقوبة حيث هناك القتل وهناك الحصر وهناك الرصد لهم في طرقهم ومسالكهم،؟. نقول: إن العقوبة تختلف باختلاف مواقع المشركين من العداء للإسلام، فهناك أئمة الكفر الذين يحاربون هذا الدين؛ ويدعون الناس لعدم الإيمان، ويحرضون على قتال المسلمين وقتلهم وإيذائهم ولا ينصلحون أبداً، ولا يكفون أذاهم عن المؤمنين أبداً: أولئك جزاؤهم القتل.



وهناك من لا يؤذون المسلمين، وإنما يجاهرون بالعداء للدعوة، هؤلاء شأنهم أقل؛ فنأخذهم أسرى. وهناك من الكفار من لا يفعل شيئا إلا أنه غير مؤمن؛ فهؤلاء نراقب حركاتهم ليتقي المسلمون شرّهم ليكونوا على استعداد بصفة دائمة لمواجهتهم إذا ما انقلبوا ليؤذوا المسلمين ويهاجموهم ويقاتلوهم.


إذن فلم توضع عقوبة واحدة تشمل الجميع. لأن الجميع غير متساوين في عدائهم للإسلام؛ فأئمة الكفر لهم حكم، والذين عداوتهم للإسلام أقل لهم حكم آخر.
ثم تأتي رحمة الله سبحانه وتعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى رحيم بعباده فلا ييئسهم أبداً من الرجوع إليه فيقول: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاوة وَآتَوُاْ الزكاوة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 5].
ويفتح سبحانه باب التوبة أمام عباده جميعاً ولا يغلقه أبداً، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيما يرويه عنه أبو حمزة أنس بن مالك- خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لله أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة».
أي أنك وأنت مسافر في صحراء جرداء بعيدة تماماً عن أي عمران ثم جلست لتستريح ومعك الجمل الذي تسافر عليه؛ عليه الماء والطعام وكل ما تملك من وسائل الحياة، ثم غفلت عن الجمل فانطلق شارداً وسط الصحراء، وتنبهت فلم تجده ولا تعرف مكانه، وفجأة وأنت تمضي على غير هدى وجدت الجمل أمامك، فكيف تكون فرحتك؟ إنها بلا شك فرحة كبيرة جدا لأنك وجدت ما ينجيك من الهلاك، وهذه الفرحة تملأ النفس وتغمرها تماماً، كذلك يفرح الله بتوبة عباده،

لذلك يوضح سبحانه وتعالى بأنه إن تاب هؤلاء الكفار من عدائهم لدين الله ورسوله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فَلْيُخَلِّ المسلمون سبيلهم وليتركوهم أحراراً.
وهنا نجد ثلاثة شروط: أولها التوبة والعودة إلى الإيمان. وإقامة الصلاة، هذا هو الشرط الثاني، ثم يأتي الشرط الثالث وهو إيتاء الزكاة، ولابد أن يؤدي الثلاثة معاً؛ لأن التوبة عن الكفر هي دخول في حظيرة الإيمان، والدخول إلى حظيرة الإيمان يقتضي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ثم إقامة الصلاة ثم إيتاء الزكاة ثم صوم رمضان ثم حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا.


ولو نظرت إلى أركان الإسلام الخمسة تجد أن المسلم قد يؤدي بعضها ولا يؤدي البعض الآخر، فالمسلم الفقير الذي لا يجد إلا ضروريات الحياة تسقط عنه الزكاة ويسقط عنه الحج، والمسلم المريض مرضاً مزمناً يسقط عنه الصوم، وتبقى شهادة أن لا الله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ وهذه يكفي أن يقولها المسلم في العمرة مرة، ويبقى ركن إقامة الصلاة لا يسقط أبداً، لا في الفقر ولا في الغنى ولا في الصحة ولا في المرض؛ لأن الصلاة هي الفارقة بين المسلم وغير المسلم، وهي عماد الدين لأنه تتكرر كلَّ يوم خمس مرات، فالمريض عليه أن يصلي بقدر الاستطاعة. فإن لم يستطع أن يؤديها واقفا فجالساً وإن لم يستطع أن يؤديها جالساً فراقداً.


إننا نعلم أن كل صلاة إنما تضم كل أركان الإسلام؛ ففي كل صلاة نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ وكل صلاة فيها زكاة؛ لأن الزكاة إخراج بعض المال للفقراء، والمال يأتي من العمل، والعمل محتاج لوقت، والصلاة تأخذ بعض وقتك الذي يمكن أن تستخدمة في العمل فيعطيك رزقاً تزكي به، فكأنك وأنت تصلي أعطيت بعض مالك لله سبحانه وتعالى؛ لأنك أخذت الوقت الذي كان يمكن أن تعمل فيه فتكسب مالاً للزكاة، فكأن الصلاة فيها زكاة الوقت.

إن الوقت هو ما نحتاج إليه في حركة الحياة للحصول على المال فتكون في الصلاة زكاة. ونأتي بعد ذلك للصوم وأنت في الصوم إنما تمتنع عن شهوة البطن وشهوة الفرج بعضاً من الوقت؛ من قبيل الفجر إلى المغرب، وكذلك في الصلاة. وفي الصلاة أنت لا تستطيع أن تأكل أثناء الصلاة. فكأنك لابد أن تصوم عن شهوة البطن وأنت تصلي، كما أنك لابد أن تصوم عن شهوة الفرج أثناء الصلاة، فلا تستطيع وأنت تصلي أن تفعل أي شيء مع زوجتك، ولا تستطيع زوجتك أن تفعل معك شيئا، بل أنت في الصلاة تكون في دائرة أوسع من الإمساك، لأنك ممنوع من الحركة وممنوع من الكلام.
فإذا جئنا إلى حج بيت الله الحرام؛ نقول إنَّك ساعة تصلي لابد أن تتجه إلى بيت الله الحرام، وتتحرى القبلة، إذن فكأن بيت الله الحرام في بالك وفي ذكرك وأنت تتجه إليه في كل صلاة. وعلى ذلك فقد جمعت الصلاة أركان الإسلام كلها. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (الصلاة عماد الدين) وإذا كانت الصلاة هي عماد الدين كما بين النبي صلى الله عليه وسلم فمن أقامها فقد أقام الدَّين- ومن عجائب ترتيب آيات القرآن أنك تجد الصلاة مقرونة دائما بالزكاة؛ لأن الزكاة بالمال، والصلاة زكاة بالوقت، نحن محتاجون إلى الوقت لنعمل فيه حتى نأتي بالمال، والحق سبحانه وتعالى يقول:
{فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5].


ومعنى ذلك أنهم إذا لم يؤدوا الثلاثة معاً لا نخلي سبيلهم، وما دمنا لا نخلي سبيلهم فهم يدخلون تحت العقوبات التي حددها الله وهي: (اقتلوهم) أو (خذوهم) أو: {واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5].
وأول العقوبات هو القتل وذلك لأئمة الكفر، فإذا آمن كافر وترك الصلاة لا يكون قد تاب وآمن: وإذا لم يؤد الزكاة لا يكون قد تاب وآمن؛ لذلك إذا لم يقوموا بالعبادات الثلاث لا نخلي سبيلهم، ولقد أفتى بعض الأئمة بأن تارك الصلاة يقتل، ونقول: لا، تارك الصلاة إمَّا أن يكون قد تركها إنكاراً لها وجحودا بها، وإما أن يكون قد تركها عن كسل. فإن كان يتركها عن كسل لأنه لا يقدر على نفسه والدنيا تجذبه بمشاغلها فعلينا أن نحاول بالحكمة والموعظة الحسنة أن ننصحه ونستحثه حتى يعود إلى الصلاة ويؤديها في وقتها، ثم من بعد ذلك إن تركها عمداً كسلاً، يعاقب بالضرب الشديد، ولكن بعض الأئمة يقولون: لقد قاتل أبو بكر أولئك الذين ارتدوا ومنعوا الزكاة، ونقول: إنه لم يقاتلهم لأنهم عصاة، بل لأنهم قد ردوا الحكم على الله، وأنكروا الزكاة فكانوا بذلك قد ارتدوا كفاراً؛ لأن هناك فارقاً بين أن ترد الحكم على الله وتنكره؛ وبين أن تسلم بالحكم لله، وتعلن أنك مع إيمانك بهذا الحكم لا تقدر على التنفيذ، أو تعترف أنك مقصر في التنفيذ. ولذلك نقول للذين يحاولون أن يدافعوا عن الربا ويحلوه: قولوا هو حرام ولكننا لا نقدر على أنفسنا حتى لا تعودوا كفاراً: لأنك إذا قلت إن الربا ليس حراماً تكون قد رددت الحكم على الله ووقفت موقف الكافر، ولكنك إن قلت إن الربا حرام ولكن ظروفي قهرتني فلم أستطع، تكون بذلك عاصياً.


وهذا كما قلنا هو الفرق بين معصية إبليس ومعصية آدم عليه السلام، فقد أمر الله تعالى إبليس بالسجود فعصى، وآدم أمره الله فعصى، فلماذا قضى الله على إبليس عليه اللعنة إلى يوم القيامة، بينما تلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه وغفر له؟ نقول: لأن إبليس رد الحكم على الله؛ فقال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61].
وقال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 76].
فكأن إبليس رد الحكم على الله عز وجل، ولكن آدم لم يقل ذلك. وإنما قال: حكمك يا ربي صحيح وما أمرتني به هو الحق، ولكني لم أقدر على نفسي فظلمتها فتب عليّ واغفرلي وذلك مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23].
وهذا هو الفرق بين المعصية والكفر.
إذن فالتعامل مع المشركين إن لو يتوبوا ولم يُصَلُّوا ولم يُزكُّوا، ولم يقدر عليهم المسلمون، ماذا يحدث؟.

إن على المسلمين أن يحاولوا تطبيق ما أمر به الله سبحانه وتعالى بشأنهم.



{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)}


بعد أن بَيَّن الله سبحانه وتعالى المهلة التي هي الأشهر الأربعة أو مدة العهد إذا كان هناك عهد. وبعد أن بين أن الكفار إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وقرنوا الإيمان بالعمل؛ فالحق سبحانه وتعالى يغفر لهم ما قد سلف منهم، وبين الله سبحانه وتعالى عظمة الإسلام والرحمة التي نزل بها هذا الدين؛ فيخبرنا أن الذين لم يتوبوا من الكفار وظلوا على حالهم ولم نقدر عليهم بأي عقوبة من العقوبات التي جاءت، ثم جاء أحدهم مستجيراً بالمؤمنين فماذا يكون سلوكنا معه؟


جاء الحكم من الله تعالى بأنه ما دام قد استجار بك فأجره، وإذا أجرته أسمعه كلام الله تعالى وحاول أن تهديه إلى الإيمان وإلى الطريق المستقيم؛ فإن آمن واقتنع وأعلن إسلامه أصبح واحداً من المسلمين، وإن لم يسمع كلام الله ولم يقتنع فلا تقتله؛ ولكن أبلغه مأمنه، أي اسأله من أين جاء؟ فإذا قال لك اسم القبيلة التي ينتمي إليها أو حدد المكان الذي جاء منه فتأكد أنه سوف يكون آمناً حتى يبلغ المكان الذي يجد فيه الأمان. وهذه هي المرحلة الأخيرة من علاقة الإيمان بالكفر، وهي مرحلة الإجارة والتأمين للمستجيرين بالمؤمنين.


فالله سبحانه وتعالى تفضل على خلقه في الأرض فأرسل إليهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بعد أن مرت فترة طويلة على إرسال من سبقوه من الرسل. وكان الناس قد نسوا منهج السماء، بل وحرَّف أهل الكتاب ما نزل إليهم من تعاليم.
وكان لابد أن تتدخل السماء بإرسال خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قد جعل في الإيمان مناعات متعددة، توجد أولا في النفس، فحين تستشرف النفس إلى معصية، فالضمير الإيماني ما زال موجوداً فيها، وهذا الإيمان هو الذي يكبح الشهوة ويمنع النفس من الركون إلى المعصية ويرد صاحبه إلى الطريق الصحيح والمنهج السوي.



وهب أن نفساً ولعت بمخالفة المنج ولم تعد نفسا لوامة، وتظل ترتكب المعاصي حتى تعتاد على المعصية، ويموت فيها الوازع الإيماني، فتجدها قد عشقت- والعياذ بالله- مخالفة المنهج، بل أصبحت نفساً أمارة بالسوء، وهنا ينقل الله المناعة الإيمانية من النفس إلى المحيطين بها من عباد الله، فتجد المحيطين بمرتكب المعاصي يردعونه عن المعصية، ويقفون منه مواقف الإيمان من الردع والمقاطعة والجفوة حتى يفيء إلى ربه يعود إلى رشده. وتلك مرحلة ثانية من مراحل الإيمان. أما إن فسد المجتمع كله ولم تعد هناك طائفة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فلابد أن تتدخل السماء برسالة جديدة وبرسول جديد مؤيد بمعجزة من السماء ليوقظ الناس من هذا السبات العميق الذي شمل الأفراد والمجتمعات.


وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وواجه هذا المجتمع الذي انتشر فيه الكفر أفراداً وجماعات كان لابد أن يحدث تصادم بين الإيمان ومجتمع الكفر؛ ذلك أن العداوة الشرسة واجهت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه المواجهة للرسول إنما جاءت من المنتفعين بالفساد في الأرض. والمنتفعون بالفساد هم السادة الذين استفادوا من ضياع الحق وانتشار الباطل فأخذوا حقوق غيرهم واستعبدوا الناس، واستأثروا هم بالمنافع وبما فيه الخير لهم ومنعوا ذلك عن باقي عباد الله.
والمنتفعون بالفساد يكرهون أي مصلح جاء ليعدل ميزان حركة الحياة في الكون. فلابد أن يقفوا في وجهه؛ ليدافعوا عن سيادتهم وعن منافعهم وأموالهم التي حصلوا عليها بالباطل والظلم، ومن استعبادهم للناس. وكانت الجزيرة العربية في ذلك الوقت مكونة من قبائل متعددة، وكان لكل قبيلة قانونها الذي يضعه شيخها ليستأثر لنفسه بكل شيء.
ومعنى ذلك أنه لا توجد رابطة تربط بين هذه القبائل، ولا يوجد قانون عام يحكمها، وكل قبيلة لها عزوتها ولها شوكتها ولها حروبها. وكل فرد في قبيلة لابد أن يكون مقاتلا يحمل سلاحه مستعدا للحرب في أي وقت، لأنه مهدد في أي لحظة أن تغير عليه قبيلة أخرى، إلا قبيلة واحدة هي قريش. فقد أخذت السيادة ولا يعتدي عليها أحد ولا تُهَاجَم قوافلها، ولا تستطيع قبيلة في الشمال أو في الجنوب أن تهاجم تجارتها؛ لأن هذه القبائل كلها ستأتي في يوم من الأيام قاصدة حج بيت الله الحرام في مكة. وخلال الحج تكون هذه القبائل في حاجة إلى الأمان من قريش؛ ولذلك حرصت كل قبائل العرب أن تحافظ على علاقتها مع قريش، لأن السيادة على بيت الله الحرام التي جعلها الله لقريش هي الضمان.



وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحماية البيت الحرام من أي عدوان، حتى عندما جاء أبرهة بأفياله ليهدم الكعبة؛ جعله الله هو وجيشه كعصف مأكول مصداقاً لقوله الحق تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 1-5].
فإذا قرأت السورة التي بعد سورة الفيل مباشرة تجد أنها: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 1-4].
فكأن حفظ الكعبة من الهدم كان حفظاً من الله سبحانه وتعالى لسيادة قريش. ولذلك كان من الواجب أن تستقبل قريش رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان والشكر وفهم هذه النعمة وتقديرها، بدلاً من أن تقف من الإسلام هذا الموقف المتعنت وتحاربه هذه الحرب الرهيبة، ولكن بدلاً من ذلك فقد حدث العكس، وأحست قريش كذباً بأن الإسلام جاء ليهدد سيادتها فقامت تحاربه.
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم تكن النداءات بالإسلام بعيدا عن هذه السيادة؟ لأن الحق قد أراد أن تكون صيحة الحق في جبروت الباطل وأن يواجه الإسلام في أول أيامه جبروت سادة الجزيرة العربية كلهم جميعا حتى يمحص الله قلوب المسلمين الأوائل. فهم من يحملون من بعد ذلك دعوة الإسلام في العالم؛ فلا يعتنق الإسلام منافق أو ضعيف الإيمان، بل يعتنقه أولئك الذين في قلوبهم إيمان حقيقي، ويتحملون كل مظاهر الاضطهاد والتعذيب بقوة إيمانهم.



لقد شاء الحق تبارك وتعالى أن يبدأ الإسلام في مكة ولم يجعل الله له النصر من مكة، وشاء سبحانه وتعالى أن يجعل نصر الإسلام من المدينة؛ لأن قريشا لو انتصرت دعوة واحد منها فهم سيحاولون احتواءه ليسودوا به الدنيا، وحينئذ سيقال: هم قوم قد تعصبوا لواحد منهم لتظل لهم السيادة، ويكون اعتناق الإسلام نفاقاً وليس إيماناً حقيقيا. ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى انتصار الإسلام من المدينة ليعلم الناس جميعاً؛ أن العصبية لمحمد صلى الله عليه وسلم لم تخلق الإيمان برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي خلق العصبية لمحمد عليه الصلاة والسلام.


ولذلك شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون هناك مواجهة شرسة بين حملة الإيمان وبين سادة الكفر.
هذه المواجهة أخذت عدة مراحل:
المرحلة الأولى كانت الدعوة للإيمان، والدعوة إلى المحبة، والدعوة إلى المساواة. وعدم مقابلة التعذيب والقتل بالعنف. وهذه البداية لم تعجب سادة قريش بل جعلتهم يستهينون بالمؤمنين ويمنعون في إيذائهم وتعذيبهم ويعتقدون أنهم سيقضون عليهم، فلما وجدوا الدعوة تقوى رغم كل ما تواجهه من مراحل التعذيب والبطش؛ ازدادوا تنكيلاً بالمؤمنين، فهاجر بعض من المؤمنين إلى الحبشة، وأصبحوا يبحثون عمن يحميهم ويستجيرون به؛ وشاء الحق تبارك وتعالى ذلك حتى لا يدخل الإسلام إلا من أُشرب قلبه حب الإسلام واستهان بكل الصعاب والاضطهاد والقتل والتشريد؛ وهؤلاء هم الذين سيصبحون مأمونين على الدعوة. وبعد ذلك ظل الكفر على كفره، وظل الإيمان يأخذ إليه بهدوء بعض الأفراد، وحاول الكفار أن يستميلوا المؤمنين بالحيلة بعد أن فشلت القوة والبطش والإرهاب؛ فقالوا: نعبد إلهكم فترة وتعبدون إلهنا فترة، فأنزل الله سبحانه وتعالى سورة فيها ما يسمى بالعرف الحديث (قطع العلاقات)، فقال الحق عز وجل: {قُلْ ياأيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ ما أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1-6].


وكان هذا إعلاناً بمرحلة ثانية تتسم بأنه لا مهادنة ولا حلول وسط بين الكفر والإيمان؛ لأنه لو قبل المؤمنون عبادتهم لآلهة- الكفار؛ فهذا اعتراف منهم بأن آلهتهم حق، ولو قبلوا أن يعبدوا الإله الواحد ويشركوا به آلهة أخرى لكان ذلك تفريطاً، ولا يمكن أن يحدث ذلك.
وكان النهي هنا في هذه الآية الكريمة يشمل الحاضر والمستقبل. وهذا ما يسمى في السياسة الدولية باسم قطع العلاقات، بل إن قطع العلاقات الدولية إنما يكون بسبب طارئ، أما الخلاف بين المسلمين الأوائل وأهل الشرك فلم يكن صراعاً بين فكر بشر وفكر بشر آخرين، ولكن المسألة كانت صراعات بين منهج تريده السماء لأهل الأرض، وبين المنتفعين بالفساد في الأرض؛ لذلك كان لابد أن يكون القطع نهائياً، فلا لين ولا مهادنة. ولا حلول وسط بين الكفر والإيمان، وهكذا فشلت حيلة الكفار في تمييع وتضييع قضية الدين، وضاع مكرهم، وبقي الوجود الإيماني قويا متحداً في مواجهة جبروت الكفار بعد أن كان مهدداً.



ثم جاءت بعد ذلك المرحلة الثالثة؛ مرحلة اعتراف الكفر بقوة الإيمان، فقد كان الكفار يواجهون المؤمنين بالقهر والتعذيب، والمؤمنون يواجهون هذا بالصبر والاحتمال حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وحدثت المواجهة المسلحة بين الإيمان والكفر في غزوة بدر، وانتصر المؤمنون وأصبح لهم كيان يحميهم، فلم يعودوا هم القلة الضعيفة المستذلة والمستكينة، بل أصبحت لهم قوة ولهم قدرة، وإن لم تصبح لهم سيطرة. ولكنهم أصبحوا قوة قادرة على مواجهة الكفار أو قوة مساوية لهم؛ تستطيع أن تصد الاعتداءات وتواجه الضربة بالضربة.
وحين أصبح للإيمان هذه القوة والقدرة على حماية أنفسهم والمساواة والكيان تجاه الكفار؛ كانت هذه بداية المرحلة التي أعطت الإسلام تفرغاً لنشر الدعوة خارج محيط مكة،



وأمن المسلمون وهم ينشرون دعوتهم من هجوم الكفار وتنكيلهم بهم بعد صلح الحديبية، وكان مجرد التعاقد والتعاهد هو اعتراف بدولة الإيمان، وهي المسألة التي فطن لها سيدنا أبو بكر رضي الله عنه وقد ظن البعض لأول وهلة أن معاهدة الحديبية كان فيها إهدار لحق المؤمنين، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: علام نعطي الدنية في ديننا.
هذه المسألة أخذت جدلاً كبيراً كاد يصل إلى أن يصادم المؤمنون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما رأت أم سلمة رضوان الله عليها خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المؤمنين من عدم إطاعة ما قاله لهم، ووجدت الحزن الشديد على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: (يا رسول الله لا تحزن. إن القوم مكروبون لأن أملهم أن يطوفوا بالبيت الحرام، وها هم أولاء الآن على مقربة من البيت ولكنهم ممنوعون من الطواف به؛ إن خير ما تفعله الآن ألا تكلم منهم أحداً، وتنفذ ما أمرك به الله؛ فإن فعلت عرفوا أن الأمر عزيمة لا نزاع فيه)، هذا ما حدث.
فقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بذبح الهدي وتحلل من إحرامه وفعل المسلمون مثلما فعل، وشاءت قدرة الله سبحانه وتعالى قبل أن يعود المؤمنون إلى المدينة، أن يبين لهم سبب قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلح الحديبية مع ما يبدو ظاهراً وليس حقيقة من أن فيه إجحافاً بالمسلمين.
لقد كان الصلح ينص على أنه إن جاء أحد هارباً من قريش والتجأ إلى المدينة ردوه إلى قريش مرة أخرى. وإن فر أحد بعد إسلامه والتجأ إلى كفار مكة لا يردونه. وقد وجد البعض في هذا إجحافاً وعدم مساواة، وكان الموقف غاية في الدقة، وعندما جاء سهيل بن عمرو ليتفاوض على المعاهدة، وكان على بن أبي طالب رضي الله عنه يكتب عن رسول الله وأملى: هذا ما تعاقد عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو. اعترض سهيل قائلا: لو كنا نؤمن بأنك رسول الله ما حدث بيننا هذا القتال، ولكن اكتب: هذا ما تعاقد عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو. هنا ثار علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وقال: لا، لابد أن نكتب هذا ما تعاقد عليه محمد رسول صلى الله عليه وسلم ورفض سهيل بن عمرو.
وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينهي الموقف فنظر إلى علي وقال: (يا علي اكتب فإنَّ لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد) أيْ أنه سوف يحدث لك نفس الشيء الذي ترفضه الآن فتقبل، وكان هذا من علامات النبوة لأن عليا وقف فعلا هذا الموقف عندما جاءت معاهدة صفين وأراد أن يكتب فيها هذا ما تعاقد عليه علي بن ابي طالب أمير المؤمنين فقالوا له: لو كنت أمير المؤمنين ما حاربناك، اكتب هذا ما تعاقد عليه علي بن أبي طالب. وتذكر علي بن أبي طالب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتب فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد».



على أن الحق سبحانه وتعالى أراد ألا يدخل المسلمون المدينة إلا وقد صفت نفوسهم دون إحساس بأن منهم من انكسر وأن الآخرين قد انتصروا، فنزل قول الحق تبارك وتعالى الذي يزيل من النفوس المرارة: وينزل عليها السكينة والطمأنينة: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 25].
وهكذا أخبر الله المؤمنين بسبب عدم السماح لهم بدخول مكة لأن فيها عددا من المؤمنين والمؤمنات الذين يكتمون إيمانهم، وهؤلاء غير مميزين لأنهم مختلطون بالكفار؛ وليس لهم مكان محدد بحيث يستطيع المؤمنون معرفتهم وتمييزهم، فلا يتعرضون لهم في قتالهم داخل مكة، ولو نشب القتال فعلاً لتم قتل عدد كبير من هؤلاء المؤمنين والمؤمنات المقيمين في مكة بأيدي المؤمنين، ولكان عاراً أن يقتل مؤمن مؤمنا أو مؤمنة.



هنا عرف الصحابة العلة وهي صيانة دم المؤمنين. وفي الوقت ذاته نجد أن صلح الحديبية جعل الدعوة الإسلامية تنتشر في الجزيرة العربية كلها. وقد اعتبره بعض الصحابة رضوان الله عليهم الفتح الحقيقي للإيمان، وجاء في ذلك تلك المقولة المأثورة: (لا فتح في الإسلام بعد فتح الحديبية) ولكن الناس لم يتسع فكرهم إلى الحكمة مما حدث، والعباد دائما يعجلون. والله لا يعجل لعجلة عباده حتى يبلغ الأمر ما أراد. وقد انتشر الإسلام في الجزيرة العربية بالدعوة، وزاد عدد المسلمين زيادة كبيرة.
إذن فمراحل الإيمان بدأت بمرحلة التعذيب والاضطهاد، ثم مرحلة محاولة الخداع للقضاء على هذا الدين، ثم المرحلة الثالثة وهي التعاهد والتعاقد، ولقد وفَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعهده، ولكن قريشاً نقضت العهد بأن أعانت قبيلة بني بكر وهم حلفاؤها على قبيلة خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام بنو بكر بمهاجمة قبيلة خزاعة وقتلوهم وهم يصلون، وذهب مندوب قبيلة خزاعة مستنجدا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهاء المعاهدة التي أبرمت بينه وبين قريش لنقض قريش العهد وأعد جيشاً لفتح مكة وتطهير البيت الحرام من الأصنام، وبعد أن تم فتح مكة في العام الثامن الهجري، أراد الله سبحانه وتعالى أن يطهر بيته من المشركين وأن يعلن أنه لا مهادنة بين الإيمان والكفر.



لقد أراد الله أن يحرر (المكان) وهو أرض الكعبة أولاً، ثم يحرر (المكين) وهم البشر فلا بد- إذن- أن تتطهر الكعبة من الأوثان، وأن يُمنع العراة من الطواف حول البيت الحرام ويُمنع المشركون من الوجود في البلد الآمن بالإسلام. وسبق حج رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع العلاقات وإنهاء المعاهدات، لكن سماحة الإيمان وحب الله لخلقه جميعا لم يجعله يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقطع المعاهدة فوراً، أو أن يقاتل المؤمنون المشركين ويأسروهم فوراً، لا، بل منحهم أربعة أشهر لعلهم يفيئون إلى الإسلام وأن يتوبوا إلى بارئهم.

لقد بين سبحانه وتعالى للكافرين أن هذه المدة لن تفيدهم في حربهم ضد الإسلام؛ لأنهم غير معجزي الله في الأرض، أي لن يعجز الله استعدادهم أو مكرهم أو أي شيء يفعلونه خلال هذه الأشهر الأربعة، فإذا انتهت هذه الأشهر وقعت العقوبة على الكفار إما بالقتل وإما بالحصار، أو بالترصد، أو عليهم أن يدبروا أمر حياتهم بالسياحة في الأرض ما داموا قد أصروا على الكفر؛ لأن حكماً من الله قد نزل بعدم وجود المشركين في هذه البقعة المقدسة.


وأراد الحق سبحانه وتعالى برحمته أن يبقي الباب مفتوحاً للكفار لكي يعودوا إلى منهجه فقال عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6].
وبعد انقضاء مدة الأشهر الأربعة، اذا استجار بك أحد من المشركين فأجره، ونحن نعلم في اللغة العربية أنّ (إِنْ) الشرطية لا تدخل إلا على فعل ولا تدخل على اسم أبداً؛ فتقول: إن قام زيد قام عمرو، وأما (إنْ) في قوله تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2].
فهذه ليست (إن) الشرطية؛ ولكنها (إنْ النافية) وهي مع (إلا) التي بعدها لإفادة التأكيد والقصر، أي قصر الأم على الوالدة، إلا أنه من بلاغة إعجاز القرآن الكريم جاء بعد (إن) الشرطية اسم في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6].
وكان القياس أن يقال: (إن استجار بك أحد المشركين فأجره)؛ ولكن الله سبحانه وتعالى جاء ب (أحد) بعد (إن) في أول الكلام، ولذلك فعندما نعرب كلمة (أحد) في الآية الكريمة السابقة نعربها فاعلاً ونقدر له فعله من جنس المتأخر، والتقدير هو: وإن استجارك أحد من المشركين فأجره.



ولماذا هذه اللفتة من القرآن الكريم؟
نقول: إن هناك مستجيراً وهنا طلب استجارة؛
فهل الاستجارة عرف بها المستجير، أم عُرفت الاستجارة منه؟.
وأقول: لنفرض أن واحداً من المؤمنين قد جلس على الحدود قرب أماكن الكفار، ثم سمع صوتاً يقول: أنا مستجير بمحمد، ومستجير بالمؤمنين، ومن بعد ذلك ظهر المستجير بجسده أمام المؤمنين، هنا تكون الاستجارة قد سبقت ظهور المستجير، وكأن الأذن هي التي استجيرت أولاً ثم رأت العين جسد هذا المستجير، وقد يختلف الأمر؛ فيظهر المستجير أولاً، ثم يصرخ طالباً الأمان والاستجارة، وبذلك تكون العين قد رأت أولاً ثم سمعت الأذن طلب الاستجارة ثانياً.
وهنا يريد الحق سبحانه وتعالى أن ينبهنا إلى أهمية الالتفات إلى صدق الاستجارة، ولا يتحقق ذلك إلا بأن يصرخ المستجير أولاً، ويظهر من بعد ذلك، ولابد أن يأخذ المؤمن حذره حتى لا ينقلب عليه المستجير أو يكون قد خدعه بطلب الاستجارة.
والاستجارة تعني طلب الجوار والحماية، ولهذا فعادة ما يكون المستجير ضعيفاً لا يقدر على حماية نفسه. وحين يستجير إنسان بآخر في مثل تلك الظروف، فعلى المجير أن يملك الفطنة ليتعرف على الهدف من الاستجارة؛ أهي استجارة لمجرد تطويل أمد البقاء على الكفر؟ أم هي رغبة في معرفة أسس الإيمان كما وردت في كتاب الله تعالى، أو أنه يريد أن يسمع حكم الله على الكفار في سورة براءة.
أو يريد أن يسمع كلام الله بما يقذف في قلبه الإيمان، أو أنه يريد أن يسمع شيئا فيما يطلب فيه الدليل، أو يسمع كلام الله فيما يرد عليه الشبهة؟.
إن فطنة المؤمن يجب أن تتسع لتسبر أغوار المستجير، وطلب الجوار أو الاستجارة كان معروفاً عند العرب، فإذا استجار شخص بعدوه فعليه أن يجيره، وهذا دليل على شهامته. وإذا كان الإيمان قد فرض على المسلمين إجازة من يطلب الجوار، فهذا دليل على قوة الإيمان وعظمته وسماحته، ولعل خميرة الإيمان الفطري في نفس الكفار قد استيقظت وتطلب معرفة قواعد الإسلام.



إن على الوالي أو أي واحد من المسلمين أن يجير المستجير، ولماذا لا نسمعه ونتكلم معه عله يؤمن، ويدخل حظيرة الإسلام وفي الإسلام يجير الوالي أو أي واحد من المسلمين؛ لأن المسلمين تتكافأ دماؤهم ولا يوجد دم سيد ودم عبد، ولا دم شريف ودم رخيص؛ وإنما يسعى بذمتهم أدناهم، ولذلك إذا أجار أي مسلم إنساناً غير مسلم أو إنساناً كافراً يجار من جميع المسلمين؛ حتى الصبي الذي لم يبلغ الحلم وحتى المجنون الذي لا يعقل. لهذا أو لذاك أن يجير بشرط أن يوافق الوالي أو المسلمون على ذلك. لماذا؟ لأننا نأخذ على الكفر أنه يغدر بالتعاهد ويتناسى المروءة، فلابد أن نتمسك نحن المؤمنين بالعهد، فإذا استجار أحد من الكفار فلابد أن نفي بالعهد.


ولكن كيف يكون للصبي والمجنون حق الإجارة؟.
نقول: إن الصبي من المؤمنين انتفع بالإسلام لأنه تمت تربيته تربية إيمانية وفقاً لمنهج الله ونشأ في ضوء قول الحق تبارك وتعالى: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24].
بل إن الإسلام يعطي التربية الإيمانية للابن حتى قبل الحمل، فيأمر الأب أن يختار الأم ذات الدين لتكون وعاء صالحاً، ويأمر الأم أن تختار الرجل المتدين ليكون أباً صالحاً.
إذن فالإسلام يخدم الصبي قبل أن يولد باختيار الأب الصالح والأم الصالحة، ويخدمه بعد أن يولد بتربيته التربية الإسلامية السليمة، وعلى ذلك فالصبي قد استفاد بكل هذه القيم من الإسلام، والذي بلغنا منهج الإسلام هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا فالتربية الإسلامية لنا جميعاً؛ لذلك يجب علينا أن نرد التحية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمنا أن المؤمنين تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم. فلو أن صبيا أعطى الأمان لكافر جاء ليسمع كلام الله؛ قبلت منه هذه الإجارة أو هذا الأمان، ذلك أن الصبي استفاد من تربية إسلامية جاء بها المنهج المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستفاد من أمه التي تحملت حمله وآلام وضعه، ولولا أن الإسلام حمى النفس حين توجد في الرحم لأمكن للمرأة حين يتعبها الحمل أن تجهض نفسها أو أن تطرح الصبي بعيداً، ولكن الإسلام حمى الطفل وهو في بطن أمه، وحماه حتى تكتمل رضاعته، وتتمثل الأم المسلمة لكل أحكام الإسلام: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233].
لقد احترم الإسلام الطفل، وسانده، وطلب من الأب والأم أن يحسنا تسمية أولادهما وأن يحسنا تربيتهما.
وقبل أن يوجد هذا الطفل في رحم أمه حماه الإسلام- كما قلنا- بأن أمر الرجل أن يختار الأم الصالحة؛ لتكون وعاء صالحاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم: فيما يرويه عنه أبو حاتم المزني قال: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) قالوا يا رسول الله، وإن كان فيه؟ قال: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه. ثلاث مرات).
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: في حديث له: (فاظفر بذات الدين تربت يداك).
والحديث فيما يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه يقول: قال صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك».
فإذا كان الإسلام قد احترم هذا الصبي في كل حقوقه، ألا يحترمه المسلمون؟.
وقد يقال إن الصبي منتفع بالإسلام، أما المجنون فلا عقل له حتى إن الله عز وجل قد أعفاه من التكاليف، ونقول: انظروا إلى المجنون بالنسبة لأصحاب العقول، صاحب العقل قصارى ما يصل إليه أن تكون كلمته نافذة لا يعترض عليه أحد، وأن يقول ما يريد ولا يحاسبه أحد، أما المجنون فهو يصل إلى هذا؛ لأنه إن قال قولاً فلا أحد يعترض عليه، وإن فعل فعلاً غير لائق فلا أحد يحاسبه، بل إنه سبحانه وتعالى لا يحاسبه يوم القيامة.
إذن فالمجنون قد أخذ حظا أكثر مما يأخذه العقلاء، وصار جنونه حماية وحصانة له إن قال كلمة الحق التي قد تؤذي ذوي النفوذ فلا يعاقبه أحد، ويكفي أن يقال إنَّه مجنون حتى يعفى من العقاب، ورب كلمة حق واحدة تصدر من مجنون؛ تكون أرجح عند الله عز وجل من أصحاب عقول كثيرة ظلوا طوال حياتهم ينافقون ويكذبون ويفعلون ما يغضب الله.
إذن فهناك مهمة في الحياة قد يؤديها المجنون ولا يؤديها العاقل، لأن بعض الناس يعتقد أنه إذا سلب الله أحد البشر شيئا فإنه يميز عنه الآخرين، نقول: لا، لأن عدل الله يأبى إلا أن يعوضه، ولذلك تجد من فقد عينيه يجعل الله عز وجل عيون الناس في خدمته؛ هذا يأخذ بيده؛ وهذا يقوده في الطريق، وهذا يحضر له الطعام والشراب، وهذا يسقيه... إلخ.
وإن كان الإنسان أعرجَ مثلاً، تجد هذا يعاونه، وهذا يأخذه معه في سيارته، وقد تقف له سيارة أجرة تأخذه إلى حيث يريد.
بينما يقضي السليم الساعات يبحث عن سيارة الأجرة بلا فائدة. بل إنك إن نظرت إلى الفقير تجد أنَّ الله قد جعل له عدداً من الأغنياء في خدمته، ففلان يحرث ويعزق ويعطيه الله خير الزراعة ليبيعه ويفيض منه على الفقير، وآخر يصنع ويتعب ويشقى ليعطي بعضاً من دخله للفقير، بل إنه يشقى مرة أخرى ليعثر على الفقير حقا ليعطيه بعضاً من ماله، والفقير بالفعل يستحق أن يأخذ شريطة ألا يكون مدعيا للفقر. فما دام قد قبل حكم الله بالفقر والعجز، يوضح له ربه: لقد رضيت بأني أعجزتك، فخذ من قدرة الأغنياء ما يعينك في حياتك، فهذا مُلْكٌ كَوْني له نظام، وأقول ذلك حتى نفهم أن الغنى والفقَر، والصحة والمرض، والقوة والضعف، إنما هي أغيار، ولذلك لا أحد يضمن غَدَهُ، وعلى الواحد منا إن كان قادراً أن يعطي الفقير، حتى إذا ضاع منا المال وجدنا من يعطينا، وأن نساعد المريض، حتى يكونوا في خدمتنا وقت شدتنا. وفي نفس الوقت حين نرى من رحمه الله من البصر يجب علينا أن نشكر نعمة الله علينا، ولو رأينا إنساناً يعاني في مشيه تنبهنا إلى نعمة الله في أن أعطانا قدرة المشي.
وهكذا فالإنسان لا يتنبه إلى النعمة إلا إذا رأى من هو محروم منها. وكذلك أراد الحق أن يرضي كل ذي آفة قَبل آفته ولم يتمرد عليها؛ لذلك يفيض عليه بالخير.
إذن فكل إنسان أسلم يستفيد من الإسلام حتى الصبي والمجنون استفادا من الإسلام، ولذلك فلابد أن نرد التحية لمن بَلَّغنا هذا المنهج الذي أعطانا الحماية، فنقرأ المنهج ونعمل به.



وحين نستقرئ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجده يرد جميل كل من ساعده، ومثال ذلك حليمة السعدية التي نالت شرف إرضاعه صلى الله عليه وسلم وهو صغير، ثم أكرمها الرسول هي وأسرتها بعد أن صار نبيا.
ثم ألم يذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ليطلب النصير له في تبليغ الدعوة بعد وفاة خديجة رضي الله عنها ووفاة عمه أبي طالب، وعز عليه النصير وفكر في العودة إلى مكة، والتمس من يجيره حين يدخلها فأجاره واحد من الكفار هو المطعم بن عدي، فإذا كان كافرٌ قد أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدعو لمحاربة الكفر؛ أفلا نجير واحداً من الكفار لنرد التحية بخير منها؟



وإذا كان واحد من الكفار قد أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة فلابد أن يرد المؤمنون كلهم التحية بأن يجيروا من يستجير بهم من الكفار. وبعد أن يجير المسلمون من استنجد بهم من الكفار على أن يسمعوه كلام الله. وبعد ذلك هناك أحد أمرين إما أن يعلن الكافر الإيمان، وفي هذه الحالة أصبح من المؤمنين، وإما أن يصر على كفره وعناده، وفي هذه الحالة يصبح على المسلمين مسئولية أن يبلغوه مأمنه، وذلك بأن يساعدوه على الوصول إلى المكان الذي يصبح آمنا فيه على نفسه وماله، وبعد أن يبلغ مأمنه ويسمع كلام الله فليس على المسلمين أن يطلقوا سراحه كما كان الأمر من قبل: {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5].
لا، بل على المسلمين أن يبلغوه مأمنه، ثم ينفذون فيه حكم الله إما أسراً، وإما حصاراً، أو قتلاً؛ حسب الحكم النازل من الله. وعلة تأمين الكافر هي أنه من قوم لا يعلمون حسبما قال الله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6].



إذن فالإيمان ليس بالفطرة فقط؛ لأن العلم له وسائل كثيرة؛ علم بالفطرة، وعلم بالاكتساب، ومرة تكون أداة العلم الأذن، ومرة بالعين، ومرة بالعقل، والمعلومات كلها تنشأ عند الإنسان إما بالإذن مما يسمع، وإما بالعين مما يرى، ثم بعد ذلك تستقر المعاني في نفس الإنسان.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78].
وهكذا حدد لنا القرآن الكريم وسائل العلم بالسمع والبصر، فإذا استقرت هذه المعلومات في الفؤاد، لأنه الذي يحفظ كل القضايا العقلية والفكرية. وإذا كان الإنسان يسمع ولا يفقه شيئا فهو لا يعلم.
إذن فالمستجير جاء ليطلب وسائل العلم وأدلة الإيمان؛ وعذره أنه لا يعلم.
وعلينا أن نحسن الظن وأن نعتبر المستجير طالب علم بالحقيقة، ويريد أن يأخذ أدلة الإيمان.

{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)}


أي لقد جربتم العهود مع المشركين، وفي كل مرة يعاهدونكم ينقضون عهدهم، وقد نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاهدة الحديبية،
إذن فالله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أننا يجب ألا نأمن لعهود المشركين لأنهم لا يحفظون العهد ولكنهم ينقضونه،
وعلى ذلك فعلة نقض العهد أنهم لم يستقيموا للعهد من قبل. ويكون بقاء العهد هو الأمر العجيب.


و(كيف) هنا للاستفهام عن الحالة، كيف حالك؟. تقول: بخير والحمد لله. إذن ف (كيف) يُسأل بها عن الحال، والحال قد يكون عاما، أي كيف حالك وحال أسرتك وأولادك ومعيشتك إلى آخره، وقد يكون خاصا أن تسأل عن مريض فتقول: كيف حال فلان؟. فيقال: شُِفي والحمد لله. أو تسأل عن معسر فتقول كيف حاله؟. فيقال: فرّج الله ضائقته. أو تسأل عن ابن ترك البيت هارباً فيقال: عاد والحمد لله.
إذن ف (كيف) إن أطلقت تكون عامة، وإن خصصت تكون خاصة، ولكنها تُطلق مرة ولا يراد بها الاستفهام، بل يراد بها التعجب؛ إما تعجب من القبح، وإما تعجب من الحسن. كأن يقال لك: كيف سب فلان أباه؟. هنا تعجب من القبح لأن ما حدث شيء قبيح ما كان يصح أن يحدث. وتأتي لإنسان اخترع اختراعاً هاماً وتقول: كيف وصلت إلى هذا الاختراع؟. وهذا تعجب من الحسن. والتعجب من القبح يكون تعجب إنكار والتعجب من الحسن تعجب استحسان كأن نقول: كيف بنيت هذا المسجد؟ وفي هذه الآية الكريمة يقول سبحانه وتعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} [التوبة: 7].
وهذا تعجب من أن يكون للمشركين شيء اسمه عهد؛ لأنهم لا يعرفون إلاَّ نقض العهد، ولا يتمسكون بالعهود ولا يحترمونها، إذن يحق التعجب من أن يكون لهم عهد بينما في الحقيقة لا عهد لهم.



وهذا التعجب للاستهزاء والإنكار، فأنت مثلا إذا جاء أحد يهددك، فقلت له: من أنت حتى تهددني؟. يكون هذا استهزاء واستنكارا لأنك تعرفه، وأيضا تستهزئ أن يملك القدرة على أن ينفذ تهديده لك. ومرة تكون استفهاما حقيقيا، كأن تسأل إنسانا لا تعرفه: من أنت؟. فيقول لك: أنا فلان بن فلان. وأحيانا تكون الإجابة عن الكيفية بالكلام، وأحيانا لا ينفع الكلام فلابد أن يجاب بالفعل.
واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} [البقرة: 260].
كيف هذه تحمل معنى التعجب الاستحساني؛ لأنك إذا بعثت الحياة في ما لا حياة فيه؛ فهذه مسألة عجيبة تستوجب الاستحسان. ولم يجب سبحانه وتعالى على سيدنا إبراهيم باللفظ، بل أجاب بتجربة عملية، ودار حوار بين الحق سبحانه وتعالى وخليله إبراهيم عليه السلام فسأله المولى سبحانه: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} [البقرة: 260].
رد إبراهيم عليه السلام: {قَالَ بلى} [البقرة: 260].
أي أنني يا رب آمنت، وأضاف القرآن الكريم على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].
والإيمان هو اطمئنان القلب، فكيف يقول إبراهيم آمنت؟ أليس في ذلك تناقض؟. وأقول: إن إبراهيم واثق من أنَّ الله سبحانه خلق الكون كله ولكنه يريد أن يعرف كيفية الإحياء وكيف يحدث، حينئذ لم يجبه الحق سبحانه وتعالى بالكلام، بل أراه تجربة عملية، فقال له: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260].
أي عليك أن تختار أربعة طيور وتضمها إليك وتتأكد من شكلها حتى إذا ماتت وأحييت تكون متأكدا من أنها هي نفس الطير. {ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260].
أي قطّع هذه الطيور بنفسك، وضع على كل جبل قطعة، وبعد ذلك ادْعُها أنت تأتك سعياً أي مشياً، حتى لا يقال إنها طيور قد جاءت من مكان آخر، بل تجيئك نفس الطيور سيراً، فإذا كان الله سبحانه وتعالى يعطي القدرة لمخلوق عندما يستدعي الميت أن يأتيه حيا، فما بالك بقدرة الله عز وجل؟



إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} [التوبة: 7].
وهذا استفهام للإنكار والتعجب من أن المشركين ليس لهم عهد، بل تمردوا وتعودوا دائما على نقض العهود ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} [التوبة: 7].
أي أن الله عز وجل وهو يخبر المؤمنين بأن هؤلاء الكفار لا عهد لهم، لا يطالب المؤمنين أن يواجهوا المشركين بالمثل، بل يأمر سبحانه وتعالى المؤمنين أن يحافظوا على العهد ما دام الكافرون يحافظون عليه، إلى أن يبدأ الكافرون في نقض العهد وهنا يلزم سبحانه المؤمنين أن يقابلوا ذلك بنقض مماثل وهذا ما يفسره قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} [التوبة: 7].
والمتقي هو الطائع لله فيما أمر وفيما نهى ويجعل بينه وبين صفات الجلال من الله وقاية، إذن فأساس التقوى هو ألا ينقض المؤمن عهداً سواء مع مؤمن أم مع كافر، وإنما الذي يبدأ بالنقض هو الكافر، وعلى المؤمن أن يحترم العهد والوعد.




{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)}
نلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى لم يقل كيف يكون للمشركين عهد، بل اكتفى ب (كيف)، لأن غدرهم صار معروفا، وكانت (كيف) الأولى استفهاما عن أمر مضى. والتساؤل هنا يوضح لنا أنهم سيخونون العهد دائما، كما فعلوا في الماضي، فكأن الذي يخبر في الماضي يخبر عن المستقبل ويعلم ما يكون منهم. ويتابع المولى سبحانه وتعالى قوله: {وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [التوبة: 8].


ومعنى (يظهروا)، أي يتمكنوا منكم، وهم إن تمكنوا من المؤمنين لا يرقبون فيهم إلاّ ولا ذمّة، و(يرقب) من الرقيب الذي يراقب الأشياء. إذن فهم لا يراقبون بمعنى لا يراعون، أي أنهم لو تمكنوا من المؤمنين لا يراعون ذمة ولا عهدا ولا ميثاقا، بل يستبيحون كل شيء. وهذا إخبار من الحق سبحانه وتعالى عما في نفوس هؤلاء الكفار من حقد على المؤمنين.
ونلاحظ أن كلمة (يرقبون) غير (ينظرون)، وغير (يبصرون)، وهي أيضا غير (يلمحون) وغير (يرمقون)، مع أنها كلها تؤدي معنى الرؤية بالعين، ولكن يرقب تعني يتأمل ويتفحص باهتمام حتى لا تفوته حركة، لذلك إذا قلنا: إن فلانا يراقب فلاناً، أي لا تفوته حركة من حركاته وهو ينظر لكل حركة تصدر منه. أما كلمة (نظر) فتعني رأى بجميع عينيه، وكلمة (لمح) تعني رأى بمؤخر عينيه، (رمق) أي رأى من أعلى. وقوله سبحانه وتعالى: {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} يعني لا يراعون فيكم عهداً، ولا يمنع الواحد منهم وازع من أن يفعل أي شيء مهما كان قبيحا؛ والمثال: أن يرفع الرجل القوي يده ليضرب طفلاً صغيراً لا يتحمل ضربته، هنا يمسك أحدهم بيده ويطلب منه أن يراعي أن الطفل صغير لا يتحمل ضربته، وأنه ابن فلان قريبه، وأنهم جيران؛ فلا يراعي هذا كله، وإنما ينهال على الطفل ضرباً.



وقوله سبحانه وتعالى: (إلاًّ) هي في الأصل اللمعان أي البريق، و(إلاّ) أيضاً هي الصوت العالي، واللمعان والصوت العالي لافتان لوسائل الإعلام الحسّية، وهي الأذن والعين، والإنسان إذا عاهد عهداً فهذا العهد يصبح أمراً واضحاً أمامه يلفت عيونه كما يلفتها الشيء اللامع، ويلفت أذنه كما يلفتها الصوت العالي، وسُمي العهد والكلام (إلاّ) لأنه معلوم بالعين والأذن.
هذا هو المعنى اللغوي، لكن المعنى الاصطلاحي لكلمة (إلاّ) هو الغصب، بأن تشد شيئا كأنك تغصبه على عدم الالتصاق بشيء آخر، ولذلك سُمِّي سلخ جلد الشاة غصباً؛ لأن صاحب المال متمسك بماله تمسك الشاة الحية بجلدها.
وإذا أطُلق الغصب في الفقه لا ينصرف إلى المعنى اللغوي وهو اللمعان والصوت العالي، وللعلماء في هذا المعنى أكثر من رؤية، وكل واحد منهم أخذ لقطة من ال (إل) وأصله اللمعان، أَلَّ.. يؤلّ.. إِلاًّ، بمعنى لمع.. يلمع.. لمعاً. وال (إل) أيضاً هو الصوت العالي، وقال ابن عباس والضحاك رضي الله عنهما: إن (إلاّ) هي القرابة؛ لأن القرابة سبب للتراحم، فأنت يعز عليك أن تخون قريباً لك؛ لأن القرابة لا تحتاج إلى عهد، وقيل إن (إلاّ) هي العهد.
وقال سيدنا الحسن: إن (إلاّ) هي الجوار وما يوجبه من حقوقه. وقال قتادة: إن (إلاّ) هي الحلف والتحالف. وقال أبو عميرة: إن (إلاّ) هو اليمين أو القسم.
والمعاني كلها تلفتنا إلى وجود نوع من التراحم، بحيث لا تتملك الإنسان القسوة أو انفلات الانفعال، وليجعل الإنسان لنفسه من يقول له: (اهدأ إنه جارك أو من قوم بينهم وبين من تعاهون صلة قرابة)؛ لأن الذي يجعل الإنسان لا يميل إلى الشر ولا يشتري فيه ساعة يحفزه الأمر؛ هو مراعاة الملابسات كلها، وهكذا يتدخل الحوار، ولكن قد توجد قرابة أو عهد أو قسم أو جوار ليمنع البطش بقسوة، أي إن (إلاّ) هو الأمر الذي يمنع الرد بقسوة على شيء قد يكون وقع خطأ. والمعنى أيضا هو عدم احترام لكل القيم؛ عدم احترام للقرابة أو الجوار أو العهد أو القسم، فإذا تمكن رجل قوي من طفل صغير لم يراع فيه أيا من هذه الأشياء.



ويريد الحق أن نعلم أن المشركين إذا تمكنوا من المؤمنين فهم لا يراعون فيهم قرابة ولا عهداً ولا حلفاً ولا جواراً ولا قسماً ولا أي شيء. إذن فكيف يكون للمشركين عهد؟ وهم إن تمكنوا من المؤمنين لا يراعون فيهم شيئا أبداً.


ثم يضيف الحق سبحانه وتعالى قوله: {وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 8].
والذمة هي الوفاء بالأمانة التي ليس عليهما إيصال ولا شهود، فإذا اقترض واحد مبلغاً من شخص آخر إيصالاً عليه بذلك الملبغ، فهذا الإيصال هو الضامن للسداد، وكذلك إن كان هناك شهود فشهادتهم تضمن الحق لصاحبه. ولكن إن لم يكن هناك إيصال ولا شهود، يصبح الأمر موكولاً إلى ذمة المقترض؛ إن شاء هذا المدين اعترف بالقرض، وإن شاء أنكره، وهناك ذمة أخرى هي التي بينك وبين نفسك، والمثال على ذلك قد تعاهد نفسك بأن تعطي فلاناً كل شهر مبلغاً من المال، وهذا أمر ليس فيه عهد مكتوب أو شهود لكنه متروك لذمتك، إن شئت فعلته، وإن شئت لم تفعله. وما في الذمة- إذن- هو شيء إنْ لم تفعله تُفضَح، مثال ذلك: أن تقرر بينك وبين نفسك أن تساعد أسرة ما، وهذا أمر خاضع لإرادتك، فلا عهد يجبرك على ذلك ولا قرابة ولا جوار، لا شيء إلا ذمتك، ولذلك فأنت تراعي الوفاء بما وعدت نفسك به لتحافظ على سمعتك ورؤية الغير لك.
وكذلك أيضاً حين تأخذ ديناً بلا إيصال منك أو شهود عليك، ولكنك تحرص على أن ترده لأنه في ذمتك.

{كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتأبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8].
وهكذا نعرف أن (كيف) هنا تعجب من أن يكون للمشركين الآن أو في المستقبل عهد لأنهم يحترفون نقض العهود ولو تمكنوا من المؤمنين فهم ينكلون بهم أبشع تنكيل دون مراعاة لأي اعتبار، وقد يقول قائل: إنهم معنا على أحسن ما يكون؛ بشاشة وجه وحسن استقبال إلى آخره، فكيف إذا تمكنوا منا انقلبوا إلى وحوش لا ترحم؟. ونقول: إن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يظهر وما يخفي، وقد علم ما يدور في خواطر المؤمنين فرد عليهم حتى لا يترك هذه الأشياء معلقة داخل نفوسهم، ولذلك يريد سبحانه وتعالى على هذا الخاطر: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتأبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8].
أي أن الله عز وجل ينبه المؤمنين ويحضهم ألا يصدقوا الصورة التي يرونها أمامهم من المشركين؛ لأنها ليست الحقيقة، بل هو خداع ونفاق؛ فهم يقولون القول الحسن، ويقابلونك بوجه بشوش وألفاظ ناعمة، لكن قلوبهم مليئة بالحقد عليكم أيها المسلمون بحيث إذا تمكنوا منكم تظهر مشاعرهم الحقيقية من البغض الشديد والعداوة، ولا يرقبون فيكم إلاّ ولا ذمّة. فإذا قال الله سبحانه وتعالى: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 8].



فعلى المؤمنين أن يصدقوا ما جاء من الحق، ويكتشفوا أن اللسان الحلو وحسن الاستقبال ليس إلا خداع، من هؤلاء الأعداء، وهو سبحانه بهذا الكشف إنما يعطينا مناعة بألاَّ ننخدع بما نراه على وجوههم؛ فهذا مجرد أمر استقبالي، لا يمثل ماضياً أو حاضراً، وحين يبرم سبحانه وتعالى أمراً استقباليا فهو يخبر به عباده المؤمنين، ولذلك نجده سبحانه وتعالى يرد بنفس الأسلوب على هذه الخواطر والمثال: في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28].


والبلاغ هنا نهي عن دخول المشركين المسجد الحرام أو اقترابهم منه، ومن الطبعي أن تدور الخواطر هنا في نفوس عدد من المؤمنين الذين يستفيدون من المشركين في مواسم الحج، لأنهم أمة تعيش على اقتصاد الحج، حيث يبيعون السلع لهؤلاء القوم ليكسبوا قوت العام، فإذا ما تم منع المشركين من الحج أو الاقتراب من المسجد الحرام، فمن أين يأتي الرزق الذي يحصلون عليه من البيع لهم؟ ولابد أن يفكر المؤمنون: من أين سنأكل؟. نحن نحضر بضاعتنا وننتظر طوال الموسم حتى الحج؛ فإذا نقص عدد الحجاج فلمن نبيع؟.
فيرد الله سبحانه وتعالى على هذه الخواطر بقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [التوبة: 28].
أي لا تخافوا الفقر، لأن الله يعلم ما سوف يحدث، والله هو الغني وعنده مفاتيح كل شيء وسوف يغنيكم من فضله ويفتح لكم باب الرزق مما يعوضكم وزيادة. وهكذا يرد الله سبحانه وتعالى على الخواطر التي تدور في نفس المؤمن ساعة نزول القرآن؛ حتى تطمئن قلوب ونفوس المؤمنين فيقول عز وجل: {يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وتأبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8].
وفي هذا القول رد على الخواطر التي دارت في نفوس المؤمنين؛ وهم يرون المشركين يستقبلونهم بألفاظ ناعمة ووجوه تملؤها البشاشة، فأوضح لهم الحق سبحانه وتعالى: لا تنخدعوا فما في القلوب عكس ما هو على الوجوه.
وقوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8].
يبين أنهم بعيدون عن المنهج، فالفسق هو الخروج عن الطاعة، وهل الكافر والمنافق له طاعة؟.
نقول: إنك إن نظرت لهؤلاء تجدهم خارجين حتى عن المنهج الذي اتخذوه لأنفسهم؛ فهم لا يلتزمون بمنهج الباطل الذي يعتنقونه، إذن فهم فاسقون حتى في المنهج الذي ينتسبون إليه، فإذا كانوا كذلك مع منهج الباطل، فكيف بهم مع منهج الحق؟.
وقوله تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} يوضح بأنه قد تكون هناك قلة ملتزمة، وهذا احتياط قرآني جميل، كما أنها ردت على السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن أن هؤلاء كافرون- وليس بعد الكفر ذنب- فكيف يقال إنَّهم فاسقون أي عاصون أو خارجون عن الطاعة وهم غير مؤمنين أصلا؟.
نقول: إنهم خارجون حتى عن مناهج الكفر التي اختاروها لأنفسهم، ولذلك يبين الله سبحانه وتعالى وضعهم حين يقول: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً...}.



{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)}
وهكذا يرينا الله عز وجل انقلاب المعايير عندهم، فما الشراء؟. الشراء هو: الحصول على سلعة مقابل ثمن، فإذا قلت: اشتريت ساعة مثلاً، تكون أنت المشتري ما دمت تدفع الثمن، والذي أخذ الثمن هو البائع، وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً} [التوبة: 9].
وكان المفروض- إذن- أن يكونوا قد دفعوا الثمن، لأن المشتري هو الذي يدفع الثمن، ولكن هنا عُكست القضية؛ فجعل الحق سبحانه وتعالى الثمن هو ما يشترونه، مع أن الثمن هو الذي يدفع، فتكون القضية مخالفة لواقع البيع والشراء، والذي يجب أن نلاحظه أيضاً هو أن الثمن يساوي السلعة. فأنت تأخذ السلعة وتعطي للبائع ثمناً يساويها، لأن ثمن كل شيء يجب أن يكون مناسباً له، فإذا اشتريت شيئا بسيطاً دفعت له ثمناً بسيطاً، وإذا اشتريت شيئا ثميناً دفعت فيه ثمناً غالياً.
هذا كله ملحوظ حتى في الأعمال، وقد تكون ممن يرغبون في مشاكسة الغير، وقد تجد من يشاكس غيره؛ يطلب من أحد أتباعه أن يسب فلاناً ويعطيه عشرة جنيهات، فإذا أراد أن يجعل التابع يضرب خصمه، يقول له: اضرب وأعطيك خمسين، وإن أراد أن يقتل التابع خصمه فهو يعطيه الألوف من الجنيهات، وغالبا ما يقول هؤلاء الذين بلا إيمان: كل ذمة قابلة للانصهار بالذهب، لكن المختلف قيمة هو الكمية التي تصهر أي ذمة، فهناك من تنصهر ذمته بريال، وآخر تنصهر ذمته بعشرين أو ثلاثين، وهناك من تنصهر ذمته بملايين.



ويلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى أن هؤلاء الكفار قد حوّلوا الإيمان إلى سلعة تباع وتشترى، فهم قد باعوا إيمانهم، وبدلا من أن يتقاضوا عنه ما يساوي الإيمان والإيمان أغلى من كنوز الدنيا؛ باعوا إيمانهم بثمن قليل، أي أنهم حتى لم يقدروا قيمة الإيمان فباعوه رخيصاً. كيف باعوا الإيمان بثمن رخيص؟.


نقول مثلاً: إن الذي يرتشي يفعل ذلك ويريد أن يعوجّ ميزان الحق، والذي يغير ميزان الحق يشكك الناس في العدالة، وإذا شك الناس في العدالة؛ فقدوا سندهم الأمني؛ لأن كل مظلوم أمله أن يرفع الأمر للقضاء فينصفه، أو أن يرفع أمره للمسئول فيعطيه حقه، فإذا أحس الناس بأن الحق قد ضاع نتيجة أنه أصبح هناك ثمن للإيمان. وإن دفع اختلت الموازين، في هذه الحالة يفسد المجتمع كله، فكأنهم باعوا فساد المجتمع كله بثمن قليل جدا.
كما أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى الحساب يوم القيامة؛ وكيف أن المؤمنين سيخلدون في الجنة وينعمون بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وسيدخل هؤلاء الكافرون النار وبذلك يكونون قد باعوا إيمانهم مقابل ثمن رخيص مهما كان المال الذي سيحصلون عليه؛ لأن مال الدنيا كلها لا يساوي يوماً في الجنة؛ لأن الدنيا موقوتة بزمن، ومتاعها محدود وقليل، فكأنهم باعوا الخلود في النعيم بمتعة وقتية قد لا تستمر إلا أياماً أو سنوات.
وحينئذ يعرف الكافرون أن الثمن الذي تقاضوه قليل جدا بالنسبة لما خسروه. وليتهم جعلوا الإيمان ثمناً يدفعونه للحصول على متاع قليل في الدنيا، ولكنهم زادوا على ذلك أنهم صدوا عن سبيل الله.



ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} [التوبة: 9].
والصد يحدث حين تكون هناك دعوة معروضة بأدلتها فتمنع الناس من أن يستمعوا إليها، لأنك تعرف أنهم لو سمعوها لاعتنقوها واقتنعوا بها، ولذلك نجد الكفار مثلاً حين نزل القرآن والعرب أمة بلاغة وأمة بيان؛ عرفوا أنه لو سمع الناس القرآن لأحسوا بإعجازه وبلاغته وحلاوته ولآمنوا به، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى على ألسنتهم في القرآن: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون} [فصلت: 26].


لأن الكفار يعرفون أن الناس لو استمعوا للقرآن لآمنوا به، ولذلك فهم ينهونهم عن السماع، وإن قرأ أحد القرآن يأمرون بعضهم البعض باللغو فيه حتى لا يفهم شيئا، وهذه شهادة من الكفار بأن الآذان لو استقبلت القرآن لآمنت، واللغو هو نوع من الصد عن سبيل الله، وكان هناك نوع آخر من الصد عن سبيل الله أنهم كانوا يمنعون الناس من الاستماع إلى دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم يعرفون أن حلاوة الدعوة ستجعل من يستمع إلى دعوة الرسول يؤمن بها. ولذلك فهم يصدون الناس عن كلام الله تعالى وعن الاستماع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يقولون لأهل الحجيج: لا تصدقوا الرجل الذي يقول إنه نبي، وهذه شهادة منهم أن الآذان لو استقبلت القرآن لسحبت أفئدتهم إلى الإيمان، وهذه شهادة ضدهم وليست لهم؛ لأنهم واثقون أن سماع الحجيج لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستبعدهم عن الكفر؛ لذلك كانوا يخافون من أن يتأثر الناس بهذا الدين الذي هو دين الحق فيؤمنوا به وهذا ما جعلهم يصدونهم عنه.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 9].
وساء أي قبح، وليس هو قبح الآن فقط، ولكنه قبح حاليا وعظمت العقوبة عليه مستقبلاً.



وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة: 9].
يرينا دقة القرآن الكريم في أن السيئ منهم ليس عملاً واحداً ولكنه أعمال متعددة؛ قول وفعل، أي هم يصدون الناس بالكلام ويمنعونهم باستخدام القوة في بعض الأحيان. وباستخدام الحق لكلمة (يعملون)؛ يلفتنا إلى أن أعمالهم ليست قولاً وليست فعلاً فقط، فهناك القول وهناك الفعل وكلاهما عمل؛ القول عمل اللسان، والفعل عمل الجوارح. فلو قال الحق: ساء ما كانوا يفعلون، لقلنا فعلوا ولم يقولوا. ولو قال: ساء ما كانوا يقولون، لقلنا: قالوا ولم يفعلوا. وسبحانه أوضح لنا أن القول والفعل كلاهما عمل، وقال سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2].
ليبين لنا أن هناك فرقاً بين القول والفعل؛ القول أداته اللسان، والفعل أداته بقية الجوارح، والمعنى في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي ساء قولهم وفعلهم.


{لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)}


من لا يرقب إلاّ ولا ذمة في غيره إنما يظلمه، فإذا كان بيني وبينك قرابة، أو عهد، أو إيمان، فإن لم تراع ذلك تكون قد اعتديت على حقوقي عندك، وليتك قد اقتصرت في الاعتداء على حقوق الغير، لكنك- أيضا- اعتديت على نفسك، لأنك أعطيتها متاعاً قليلاً في الدنيا، وتصلى في الآخرة ناراً، إذن فقد ظلمت نفسك. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135].
ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118].
وأليس الذي فعل فاحشة، يظلم نفسه؟ بلى، ظلمها في الآخرة بعد أن أعطاها شهوة في الدنيا، أي أنه أخذ متعة عاجلة بعذاب آجل. لكن الذي يظلم نفسه ظلما شديدا وبيِّناً هو الذي يرتكب إثما دون أن يأخذ متعة في الدنيا، فلا هو أخذ متعة دنيا ولا أخذ متعة آخرة، مثل الذي يتطوع لشهادة الزور، هو يأخذ عذاباً في الآخرة ولم يأخذ متعة في الدنيا.



وقد يقول قائل: إن هذه الآية مكررة لأن الله تعالى قال من قبل: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 8].
ونقول: إن الموضوع يختلف، ففي الآية الثامنة من سورة التوبة يبين الحق أنهم إن تمكنوا من المؤمنين فلن يراعوا قرابة ولا جواراً ولا حلفاً، وإن أظهروا عكس ذلك. أما في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها فهم يظلمون أنفسهم ويبيعون إيمانهم بثمن قليل، وهناك فرق بين ظلم الغير وظلم النفس.
وهم في صدهم عن سبيل الله تعالى وعدوانهم على المؤمنين، لم يحصلوا على فائدة دنيوية، بل حاربوا الإيمان وحاربوا الدين فأخذوا الإثم ولم يستفيدوا شيئا، فكأنهم لا يرقبون إلاّ ولا ذمة حتى مع أنفسهم. ولذلك وصفهم الحق سبحانه وتعالى بأنهم هم المعتدون، لأنهم دون أن يُعتدى عليهم تطوعوا بالعدوان على دين الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين ثم قاموا بالعدوان على أنفسهم. ومن بعد ذلك تأتي رحمة الله لترينا كيف أن الله تعالى رحيم بعباده وخلقه، فالحق سبحانه وتعالى يخبرنا بأنهم مهما فعلوا فإنهم إن تابوا يقبل الله توبتهم



{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)}


هذه الآية الكريمة تؤكد لنا أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله، وأن الباب مفتوح دائما لتوبة المشركين والكافرين مهما كانت ذنوبهم، وهكذا تكون رحمة الله تعالى. ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال: {فَإِن تَابُواْ} ولم يقل إذا تابوا، لأنه لو قال: إذا تابوا تكون توبتهم مؤكدة، ولكن قوله: {فَإِن تَابُواْ} فيها شك، لأن ما فعلوه ضد الإيمان كثير، والذي نأمله فيهم قليل، ولكن التوبة تفترض أن يباشر التائب بعدها مهمته الإيمانية. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاوة وَآتَوُاْ الزكاوة} [التوبة: 11].
إذن فالمهمة الإيمانية بعد التوبة إنما تكون بشهادة أن (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وبطبيعة الحال لابد من مباشرة الصلاة لأنها تجمع كل أركان الإسلام، وهي عمل يومي، وليست عملاً مطلوباً من الإنسان مرة واحدة كالحج، وليست كالصوم، فالصوم مدته شهر واحد من السنة. إذن لكي تتأكد التوبة فلابد أن يؤدي التائب الصلاة في وقتها كل يوم فهي العمل اليومي الذي لا يؤجل ولا يتأخر عن وقته، والصلاة قرنت غالباً بالزكاة في آيات القرآن الكريم؛ لأن الزكاة تضحية بالمال، والمال ناتج العمل، والعمل ناتج الوقت، والصلاة تضحية بالوقت، فكأن الصلاة- كما قلنا- فيها زكاة.
والحق سبحانه وتعالى يقول: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاوة وَآتَوُاْ الزكاوة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 11].



إنه لابد أن نلاحظ في التفصيل هنا المراحل الإيمانية التي بينها الله عز وجل لنا؛
المرحلة الأولى وهي تحمل الاضطهاد والصبر،
والمرحلة الثانية أنه لا مهادنة بين الإيمان والكفر، وهذه حسمت محاولة الكفار تمييع قضية الإيمان بأن نعبد إلهكم فترة وتعبدون إلهنا فترة، وكانت هذه عملية مرفوضة تماماً الآن وفي المستقبل وحتى قيام الساعة. ثم جاءت مرحلة المعاهدات ثم نقض العهود ثم مهلة الأشهر الأربعة الحرم التي أعطيت للكافرين. وكل هذه مسائل مقننة، ولم تكن الأمة العربية تعرف التقنينات.


إذن فكل هذه التقنينات جاءت من السماء، والتقنينات في الأمم تأخذ أدوارا طويلة، ولا يوجد قانون بشري يولد سليماً وكاملا، بل كل قانون يوضع ثم تظهر له عيوب في التطبيق، فيعدّل ويطور ويفسر ويحتاج إلى أساطين القانون الذين يقضون عمرهم كله في التعديلات والتفصيلات، فكيف ترتب هذه الأمة العربية الأمية التي لم يكن لها حظ من علم ولا ثقافة كل هذه التقنينات؟.
نقول: إنها لم ترتب، وإنما رتب لها ربها الذي أحاط بكل شيء علماً، فكل هذه المراحل التي مر بها الإيمان نزلت فيها تقنينات من السماء تبين للمؤمنين ما يجب أن يفعلوه.
{فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاوة وَآتَوُاْ الزكاوة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين} [التوبة: 11].
ونحن عادة نعرف أخوة النسب، فهذا أخي من أبي وأمي، أو هذا أخي من الأب فقط، أو هذا من الأم فقط، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} [يوسف: 58].



هذه أخوة النسب، ونحن نعلم أن مادة الأخوة تأتي مرة لتعبر عن أخوة النسب، وتأتي مرة كلمة (إخوان) لتعبر عن الأخوة في المذهب والعقيدة، وشاء الحق سبحانه وتعالى أن يرفع الإيمان إلى مرتبة النسب، فقال عز وجل: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
ليدلنا على أنهم ما داموا قد دخلوا معنا في حظيرة الإيمان فلهم علينا حق أخوة النسب فيما يوجد من تواد وتراحم، وترابط وحماية بعضهم البعض دائما، وحب ووفاق إلى آخر ما نعرفه عن حقوق الأخوة بالنسب.



ولكن نلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى قال: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين} [التوبة: 11].
ولم يقل إخوانكم، لماذا؟.
نقول: ليس من المعقول أن يخرجوا من كل ما كانوا فيه من آثام بالتوبة، ثم يصبحوا في نفس التو واللحظة إخوة، لكن ذلك يحدث عندما يتعمق إيمانهم، ويثبت صدق توبتهم حينئذ يصبحون إخوة.



ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 11].
كيف يكون التفصيل لمن يعلم؟. وما دام يعلم فلماذا التفصيل؟.

ونقول: إن المعنى هنا أن الله سبحانه وتعالى يفصل الآيات لمن يريدون أن يعلموا العلم الحقيقي الذي يأتي من الله، لأن هذا العلم له أثر كبير على مستقبل الإيمان، ولذلك فغير المسلمين الذين يهتمون بدراسة الدين الإسلامي دراسة جادة للبحث عن العلم الحقيقي ينتهون إلى إعلان إسلامهم، لأنهم ما داموا أهل علم وأهل مواهب وأهل طموح في فنونهم، وما دامت شهوة العلم قد غلبتهم، وأرادوا أن يدرسوا منهج الإسلام بموضوعية، لذلك تجدهم يعلنون الإسلام لأنهم ينظرون النظرة الحقيقية للدين الذي يدرسونه، وهم يأخذون الإسلام من منبعه الإيماني وهو القرآن الكريم والسنّة النبوية، ولا يأخذون الإسلام من المنسوبين للإسلام، أي من المسلمين؛ لأن المسلمين قد يكون فيهم عاص، وقد يكون فيهم سارق، وقد يكون فيهم مُرْتشٍ، وقد يكون فيهم كذاب، وقد يكون غيهم منافق، ولو أخذوا الإسلام عن المسلمين لقالوا: ما هذا؟ معصية وسرقة وكذب ورشوة ونفاق؟!


إنني أقول دائماً لمن لم يدرس الإسلام من أهل البلاد الأخرى: لا تنظر إلى المنسوبين للإسلام، ولكن انظر إلى الإسلام في جوهره ومنهجهتفسير الشيخ الشعراوى(سورة التوبة) 1-11القرآن والسنة)؛ هل جرم الرشوة والسرقة والكذب والنفاق وجعل لها عقوبة أو لا؟ نعم جرّمها.
إذن فهذه الأفعال كلها التي وجدتها في عدد من المسلمين واستنكرتها ليست من الإسلام في شيء، ولكنك إذا ذهبت إلى الإسلام لتعرفه من منابعه العلمية وهي معزولة عن المنسوبين إليه لانتهيت إلى الإيمان.



ولذلك لو عرف المسلمون الذين ينحرفون عن المنهج، ماذا يفعلون بالإسلام وكيف يسيئون إليه؛ لعلموا أنهم يفعلون شيئا خطيراً؛ لأن الإسلام منهج وسلوك، وليس منهجا نظريا فحسب، بل هو منهج عملي يطبق في الحياة، ولذلك فإذا كان القرآن الكريم يمثل قواعد المنهج، فسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل المنهج العملي التطبيقي للإسلام.
ويقول الحق سبحانه: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} [الأحزاب: 21].



والمسلم حين يطبق منهج الإسلام يلفت نظر غير المسلم إلى هذا الدين ويحببه فيه، وحين يفعل ما لا يرضاه الإسلام يُنَفَرِّ غير المسلم من الدين، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2- 3].
لأن فعلك حين يختلف مع الدين الذي تدعو إليه وتؤمن به، فهو يتحول إلى حجة ضد الدين، فيقول غير المسلم: لقد رأيت المسلم يغش، ورأيته يسرق، ورأيت يده تمتد إلى الحرمات، إذن فكل منحرف عن الدين إنما يحمل فأساً يهدم بها الدين، ويكون عليه وزر عمله، ووزر من اتخذوه قدوة لهم.



ولقد قلنا: إننا حين ننظر إلى التمثيل الدبلوماسي في العالم الإسلامي، نجد اثنتين وسبعين دولة إسلامية لها سفارات في معظم دول العالم، وأتساءل: كم من أفراد هذه السفارات يتمسك بالمظهر الإسلامي؟. أقل القليل. وكم من الجاليات الإسلامية في الدول الأجنبية يتمسكون بتعاليم الدين؟. أقل القليل. ولو أنهم تمسكوا جميعا بتعاليم الإسلام لعرفت دول العالم أن لهذا الدين قوة ومناعة تحميه. وأن هذه المناعة هي التي منعت الحضارة المادية المنحرفة من أن تؤثر في هؤلاء، ولكان لفتة قوية لشعوب العالم لكي تدرس هذا الدين، ولكنك تجدهم يذوبون ويتهافتون على الحضارة المادية للدول التي يقيمون فيها، مما يجعل شعوب هذه الدول تقول: لو كان دينهم قويا لتمسكوا به، ولم يتهافتوا على حضارتنا.
وإذا درسنا تاريخ الإسلام نجد أنه لم ينتشر بالقتال أو بالسيف؛ لكنه انتشر بالأسوة الحسنة، وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاوة وَآتَوُاْ الزكاوة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 11].
أي نبينها لقوم يبحثون عن العلم الحقيقي، الذي بينه الله عز وجل في منهجه، ولذلك نجد مثلا أنه إذا وصلت أمة من الأمم إلى كشف جديد فأهل العلم في الإسلام يعرفون أنه ليس كشفا جديداً؛ لأن الإسلام ذكره منذ وقت طويل.



فمثلا في القانون في ألمانيا وصلوا إلى مادة في القانون سموها: (سوء استغلال الحق) فأنت لك حقوق، ولكنك قد تسيء استغلالها. وبدأت الدولة في ألمانيا تتجه نحو تشريع قوانين تهدف لمنع إساءة استغلال الحقوق ووضع شروح لهذه القوانين وتطبيقها إلى آخره، وذهب محام مسلم من بني سويف ليحصل على الدكتوراه من ألمانيا، فاطلع على هذه المسألة، وقد كان يحضر محاضرة يلقيها صاحب قانون نظرية (سوء استغلال الحق)، فقام المحامي المسلم وقال له: أنت تقول إنَّك واضع هذه النظرية؟.
فقال المحاضر الألماني: نعم. فقال المحامي: لقد جاءت هذه النظرية منذ أربعة عشر قرناً في منهج الإسلام. وارتبك المحاضر الألماني ارتباكا شديداً، وجاء بالمستشرقين؛ ليناقشوا هذا المحامي المسلم، وجاءوا بكتب السيرة النبوية، وأخرج المحامي للمستشرقين قصة من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: إن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان جالسا فجاءه صحابي يشكو من أن أحد الصحابة له نخلة في بيته، والبيت مملوك للصحابي الشاكي، والنخلة مملوكة لصاحبي آخر، وقد تعوَّد أن يأتي الصحابي صاحب النخلة إليها كثيراً ليشذبها ويلقحها ويطمئن عليها، وكأنه قد جعلها (مسمار جحا) كما يقول المثل الشعبي، فتعرضت عورة أسرة الصحابي صاحب البيت إلى الحرج، فذهب يشكو الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحضر الرسول صاحب النخلة وأوضح له بما معناه: (إما أن تهب النخلة لصاحب البيت، وإما أن تبيعها له بالمال، أو أن تقطعها).

لقد أوضح له الرسول صلى الله عليه وسلم: أن النخلة حقك ولكنك أسأت استعمال الحق بكثرة ذهابك إلى مكانها بسبب وبغير سبب، مما عرَّض عورة صاحب البيت للمتاعب. وكان هذا الفعل هو المثل الحي لسوء استغلال الحق. وكان من أمانة العلم أن يعدل أستاذ القانون الألماني في محاضرته ويقول: لقد ظننت أنني قد جئت بشيء جديد، ولكن الإسلام سبقني إليه منذ أربعة عشر قرنا. وفعلا تم التعديل. واعترف القانون الألماني بأن الإسلام قد سبقه في نظرية (سوء استغلال الحق) منذ ألف وأربعمائة سنة.


ولذلك تجد أن صفة الأمية في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أمته، كانت شهادة تفوق؛ لأنها لم تأخذ علمها بالقراءة عن حضارات الأمم السابقة، وإنما أخذته عن الله؛ لأن أقصى ما يصل إليه غير الأميين في علمهم أن يجيء إليهم العلم من بعضهم البعض، ولكن أمة محمد صلى الله عليه وسلم جاء لها العلم من الله، وسادت الدنيا أكثر من ألف عام.



نداء الايمان











08-27-2023
#2  

افتراضيرد: تفسير الشيخ الشعراوى(سورة التوبة) 1-11

احسنتي


من مواضيع : sahar saad



الكلمات الدلالية (Tags)
1-11, التوبة), الصحى, الشعراوى(سورة, تفسير


الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تفسير سورة التوبة تفسير السعدي{1-31 } (من كتاب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان امانى يسرى محمد القرآن الكريم 1 08-27-2023 06:03 PM
تفسير سورة التوبة تفسير السعدي{ 101-129} (من كتاب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان امانى يسرى محمد القرآن الكريم 0 07-26-2022 05:02 PM
تفسير سورة التوبة تفسير السعدي{ 80-100} (من كتاب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان امانى يسرى محمد القرآن الكريم 0 07-26-2022 05:18 AM
تفسير سورة التوبة تفسير السعدي{61- 80 } (من كتاب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان امانى يسرى محمد القرآن الكريم 0 07-25-2022 05:08 AM
تفسير سورة التوبة تفسير السعدي{32- 60 } (من كتاب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان امانى يسرى محمد القرآن الكريم 0 07-24-2022 05:30 AM


الساعة الآن 04:43 AM.


Powered by vBulletin Version 3.8.8 Alpha 1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd Trans
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.

خيارات الاستايل

  • عام
  • اللون الأول
  • اللون الثاني
  • الخط الصغير
  • اخر مشاركة
  • لون الروابط
إرجاع خيارات الاستايل