Warning: Division by zero in [path]/includes/class_postbit.php(294) : eval()'d code on line 80
تفسير الشعراوي 1-2-5 سورة فاطر - منتدي عالمك
للنساء فقط
تأملات في سورة فاطر من [ امانى يسرى محمد ]

القرآن الكريم

كل ما يخص القرآن الكريم من تجويد وتفسير وكتابة, القرآن الكريم mp3,حفظ وتحميل واستماع. تفسير وحفظ القران,القران الكريم صوت,ادعية و اذكار يوجد هنا قراءة القرآن أدعية أذكار شريفة و أحاديث إسلامية,القران الكريم قراءة,انشطة حفظ القرآن الكريم و التفسير و التجويد,تنزيل القران الكريم على الجوال,القران الكريم بصوت احمد العجمي.

نسخ رابط الموضوع
https://vb.3almc.com/showthread.php?t=36960
68 0
منذ 2 أسابيع
#1  

افتراضيتفسير الشعراوي 1-2-5 سورة فاطر


ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ١-فاطر


تعرضنا للسور التي بُدئت بالحمد لله، وهي: الأنعام، والكهف، وسبأ. وهنا في فاطر، والحمد في كل منها له معنى وله مناسبة؛ لأن الإنسان احتاج إلى إيجاد من عدم، ثم وسائل إبقاء في الحياة الدنيا، ثم احتاج إلى إيجاد بعد البعث، وأيضاً وسائل إبقاء في الآخرة.
فسورة الكهف تعرضت لحمد الله على المنهج { { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ.. } [الكهف: 1]؛ لأن المنهج هو وسيلة الاستبقاء للإنسان، فلولا أن المنهج يُبيِّن للناس الحق والباطل لتفاني الخَلْق، وما استقامتْ لهم الحياة، أما سورة سبأ فتعرضت لحمد الله على نعمه في الدنيا وفي الآخرة.
وهنا في فاطر: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً } [فاطر: 1]؛ فذكرتْ الحمد على وسائل الإبقاء كلها، المادي منها المتمثل في مُقوِّمات الحياة المادية، والمعنوي منها المتمثل في منهج الله.

والحمد على إطلاقه لله تعالى، حتى إنْ توجه للبشر، فمردُّه إلى الله، لأنك حين تحمد البشر تحمده على شيء قدَّمه لك، هذا الشيء ليس مِنْ مِلْكه في الحقيقة، ولا من ذاته، إنما هو من فيض الله عليه، فهو مناول عن الله، وإنْ قدّم لك عملاً فإنما يقدِّمه بالطاقة التي خلقها الله فيه، وبالجوارح التي انفعلتْ بخَلْق الله فيه، إذن: فالحمد بكل صيغة راجع إلى الله تعالى.
ثم يأتي بحيثية من حيثيات حَمْد الله، فيقول: { فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [فاطر: 1]ومعنى فاطر السماوات والأرض: خلقها ومُبدعها على غير مثال سابق يُحتذى به، وهذه مسألة تستحق الحمد؛ لأن الله تعالى كرَّم الإنسان الخليفة في الأرض، فسَوَّدهُ على سائر الأجناس وكرَّمه بالعقل الذي يختار بين البدائل.
وبعد ذلك بيَّن سبحانه إنْ كان خَلْق الإنسان مُعْجزاً، وإن كان هو السيد المخدوم من جميع الأجناس، فإنَّ خَلْق السماوات والأرض أكبر من خَلْق الناس وأعظم؛ لذلك لما تكلم سبحانه عن حمد الله ذكر أكبر المخلوقات وأعظمها، وهي السماوات والأرض.

والسماء هي كل ما علاك، لذلك تُطلق على السحاب، فهو السماء التي ينزل منها المطر، كما قال سبحانه { { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } [القمر: 11] وليست هذه هي السماء المقابلة للأرض.
والله تعالى يقول في خلق السماوات السبع: { { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } [الملك: 3] يعني: ليس بها فتوق أو شقوق، فكيف إذن تنزل الملائكة ومسكنهم السماء، كيف ينزلون إلى الأرض؟
قال الحق سبحانه وتعالى: { { تَنَزَّلُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ } [القدر: 4].

الحق سبحانه يُقرِّب لنا وظيفة الملائكة، وأنها خاصة بالسماء صعوداً وهبوطاً، فقال في آية فاطر { جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ } [فاطر: 1] فعملهم إذن في السماء، لكن كيف يَنْفُذون من السماء، وليس بها فتوق ولا شقوق، قالوا: ينفذون؛ لأن طبيعتهم الملائكية الشفافة تسمح لهم بذلك، فالإنسان مثلاً خُلِق من طين، والطين له جِرْم ومادة لا تمكنه أنْ ينفذ من شيء.
أما الجن فقد خلقه الله من النار، وللنار أيضاً جِرْم ومادة، لكن ألطف وأشفّ من الطين؛ لذلك ينفذ الجن من الأشياء المادية، بدليل أنك لو جعلتَ مثلاً تفاحة خلف جدار، فإنك لا ترى شكلها، ولا تحسُّ طعمها ولا رائحتها، لكن لو أوقدتَ ناراً خلف هذا الجدار فإنك بعد قليل تُحِسُّ بحرارتها في الجهة الأخرى، وهكذا ينفذ الجن كما تنفذ الحرارة.
أما الملائكة فهي أرْقى الأجناس وأعلاها، خلقها الله من نور، وهو ألطف وأشفّ من الطين ومن النار؛ لذلك لا يحتاج النور إلى منافذ، أرأيتم مثلاً الأشعة التي تخترق الجسم وتعطينا صورة كاملة لما بداخله كالقلب أو غيره؛ هكذا الملائكة تنفذ لا يحجزها شيء.
وقوله سبحانه { جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً } [فاطر: 1] الملائكة جنس من المخلوقات، قال الله عنهم: { { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [الأنبياء: 26-27] والملائكة أقسام: فمنهم العَالُون، وهم المهيَّمون في الله، ولا عملَ لهم إلا عبادته سبحانه، وهؤلاء لا يدرُونَ شيئاً عن هذا الكون، ولا صلةَ لهم به؛ لذلك لما أَبَى إبليس أنْ يسجد لآدم كما أمره الله، قال الله له: { { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ص: 75].
ومن الملائكة قسْم له علاقة بالإنسان، وهؤلاء هم الذين أُمِروا بالسجود لآدم، وكأن الله تعالى يقول لهم: هذا المخلوق هو الذي ستكونون في خدمته، ومنهم: المعقبات، كما قال سبحانه: { { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } [الرعد: 11] يعني: يحفظونه حِفْظاً صادراً من أمر الله، وإلا فالملائكة لا تمنع عن الإنسان أمراً قضاه الله عليه.
إذن: حِفظهم لنا حِفْظ من باطن حِفْظ الله لنا؛ لذلك يقولون مثلاً (العين عليها حارس)، ونرى مثلاً من يسقط من الطابق الثالث أو الرابع، ولا يصيبه مكروه؛ لأن الله سبَّب له أسباب النجاة، وحفظته الحفظة.
ومن هؤلاء المدبرات أمراً، الذين قال الله عنهم: { { فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } [النازعات: 5] وهم الذين يُدبِّرون أمور الخَلْق بأمر الله، ومنهم الكتبة الذين يكتبون الأعمال: { { كِرَاماً كَاتِبِينَ } [الانفطار: 11].
هؤلاء الملائكة جعلهم الله { رُسُلاً } [فاطر: 1] إما إلى الرسل من البشر يحملون إليهم منهج الله، وإما رسلاً منه سبحانه لمهامهم التي تتعلق بهذا الكائن الإنساني. ثم وصفهم فقال: { أُوْلِيۤ } [فاطر: 1] أصحاب { أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [فاطر: 1] وهذا الوصف دلَّ على صلة الملائكة بالجو والسماء، ومهمة الصعود والهبوط، وهذه الأجنحة ليس لها نظام ثابت، بل منهم مَنْ له مثنى، ومَنْ له ثلاث، ومَنْ له رُبَاع، بل ويزيد الله في ذلك ما يشاء { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } [فاطر: 1].
وكأن الخالق سبحانه يقول لنا: إنْ كنتم لم تروْا إلا جناحين للطائر، فلا تتعجبوا ولا تنكروا أنْ يكون للملَك أكثر من ذلك؛ لأنه خَلْق الله الذي يزيد في الخَلْق ما يشاء، والذي له سبحانه طلاقة القدرة، فخَلْق الله ليس عملية ميكانيكية أو قوالب تُصَبُّ على شكل واحد، وخَلْق الله ليس مخبزاً آلياً يُخرِج لك الأرغفة متساوية.

وتتجلى طلاقة القدرة في الخلق منذ خَلْق الإنسان الأول آدم عليه السلام، فإنْ كانت مسألة التناسل تقوم على وجود ذكر وأنثى، ومن هذه جاءت جمهرة الناس، فطلاقة القدرة تخرق هذه القاعدة في كل مراحل القسمة العقلية لها، فالله خلق آدم عليه السلام من لا أب ولا أم، وخلق حواء من أب بلا أم، وخلق عيسى عليه السلام من أم بلا أب.
فما دام أن الذي يزيد في الخَلْق هو الله، فلا تتعجب ولا تُكذِّب حين تسمع الحديث النبوي، قال صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ جبريل وله ستمائة جناح" صَدِّق؛ لأنك لستَ مسئولاً عن الكيفية، إنما عليك أنْ تُوثق الكلام: صدر من الله أو لم يصدر، صَحَّ عن رسول الله أو لم يصح، كُنْ كالصِّدِّيق لمَّا حدثوه عن الإسراء والمعراج وقالوا: إن صاحبك يقول كذا وكذا، فقال الصِّديق: "إنْ كان قال فقد صدق".
لذلك، فالذين يبحثون في عِلَل الأحكام عليهم أنْ يَدَعُوا البحث فيها، ويكفي أنْ يُوثِّقوا مصدرها، فإنْ كانت من الله فعلىَّ أن أفعل لمجرد أن الله أمرني بذلك، فَعِلَّة الحكم أن الله أمر به، فهمتُ حكمته أو لم أفهم.
ونرى بعض العلماء يحرصون على استنباط الحكم من كل عبادة من العبادات، فيقولون مثلاً، شرع اللهُ الصومَ ليدرك الغنيُّ ألمَ الجوع، فيعطف على الفقير، وهذا يعني أن الفقير لا يصوم، فالأقرب أنْ تقول: أصوم؛ لأن الله أمرني بالصوم.

فأنت مثلاً لا تسأل الطبيب لماذا كتب لك دواء كذا وكذا، بل تترك له هذه المهمة، وما عليك إلا أنْ تتناول الدواء، ولا يسأل الطبيب، ولا يناقشه في هذه المسألة إلا طبيب مثله، لكن هل هناك مُسَاوٍ لله فيسأله: لماذا فُرِض علينا كذا أو كذا؟
فقوله سبحانه { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } [فاطر: 1] دليل على طلاقة القدرة التي لا يعجزها شيء، ومن طلاقة القدرة أنْ ترى الطويل والقصير، ولا تكاد تُفرِّق بين قامات الناس وهم جلوس؛ لأن منطقة الصدر والبطن متقاربة الطول، إنما تُفرِّق بينهم حال الوقوف؛ لأن معظم الطول في السيقان والأوراك؛ لذلك تنظر إلى رجلين وهما جالسان ترى طولهما واحداً، فإنْ قاما ظهر الفارق، وهذا يسمونه (الحبتر).
من طلاقة القدرة اختلاف الخَلْق في الشكل، وفي اللون، وفي الطباع، وفي الذكاء؛ لذلك من وقت لآخر نرى طفلاً برأسين، أو بيد فيها ستة أصابع، أو دابة بخمسة أرجل، من طلاقة القدرة أن ترى هذا وسيماً معتدل الصورة، متناسق الأعضاء، كهؤلاء الذين تنطبق عليهم شروط القبول مثلاً في الكليات العسكرية أو البوليس، وترى آخر جبهته نصف وجهه، أو أنفه كذا وكذا .. إلخ، هذا جريء القلب، وهذا رعديد جبان، هذا فصيح اللسان، وهذا عَيى لا يكاد ينطق؛ لذلك يقول سبحانه { { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ .. } [الروم: 22].
من طلاقة القدرة أنه سبحانه { { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } [الشورى: 49-50].

من طلاقة القدرة أنْ يؤلف الله سبحانه بين الأجناس المتباعدة تآلُفَ مصلحة وانتفاع، ففي السودان مثلاً بيئة تعيش فيها التماسيح، ورغم ما عرفناه من شراستها إلا أن الله ألَّف بينها وبين الطيور، فجمعتهم مصالح مشتركة: التمساح يخرج إلى البَرِّ ثم يفتح فَاهُ، فيأتي الطائر ويدخل فم التمساح، ويُنظف له أسنانه ويتغذَّى على بقايا طعام التمساح ويخلِّصه من الفضلات، فإذا أحسَّ الطائر بقدوم الصياد صوَّت ليحذر التمساح، فتسرع إلى الماء، سبحان الله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى.

إنك تتعجب من طلاقة القدرة حين ترى عنق الزرافة أو الجمل، وعنق الدب مثلاً، فكُلٌّ له ما يناسبه.
تذكرون أنه عندما تكلم العلماء عن الحواس، قالوا: الحواس الخمس. واحتاطوا للأمر وللزيادة فقالوا: الخمس المعروفة، وبالفعل عرفنا بعدها حواسَّ أخرى، كحاسة البَيْن التي نعرف بها مثلاً سُمك القماش، وعرفنا حاسَّة العَضل التي نعرف بها ثقل الأشياء.
كما أن أعضاء الإنسان وحواسّه تؤدي مهمتها مع اختلافها من شخص لآخر، فنحن جميعاً نرى بالعين، ونسمع بالأذن، ونشُم بالأنف وهكذا، لكن ألم تسمع؛ فلان هذا يسمع دبة النملة، وروى لنا التاريخ عن شخصيات كانت ترى لمسافات بعيدة على غير المعتاد، هذا كله زيادة في الخَلْق، يختصُّ الله بها مَنْ يشاء.
لذلك يقول الشاعر:
سُبْحَانَ مَنْ قَسَمَ الحُظُوظَ فَلا عتَابَ ولاَ مَلاَمَه
أعْمى وأَعْشى ثُمَّ ذُو بَصَرٍ وزرْقَاء اليَمَامَه
وزرقاء اليمامة يُضرب بها المثل في حِدة البصر، فيقولون: أبصر من زرقاء اليمامة.
ويُلخِّص الشاعر قصة فتاة منحها الله هذه الزيادة في البصر، فقال:
وَاحْكُمْ كحُكْمِ فَتَاةِ الحيِّ إذْ نظرَتْ إلى حمام شِراعٍ وَارد الثُّمَدِ
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد
وكان عندها حمامة واحدة، فتمنَّتْ أنْ ينضم هذا السرب ونصفه إلى حمامتها، وبذلك سيكون عندها مائة:
فَعَدوه فَألْفَوْهُ كما حكمَتْ سِتّاً وسِتِّين لَمْ تنقُصْ ولم تزد
فتأمل هذه الفتاة تنظر إلى سِرْب الحمام وتعده، وتضيف إليه نصفه ثم تضيف حمامتها، فيكون لديها مائة حمامة، هذه قوة في البصر، وقوة في الملاحظة.
كذلك حاسة الشم فيها عجائب مما يزيده الله في هذه الحاسة عند مَنْ شاء أن يزيده، والمثال الواضح لحاسة الشم وتمييز الروائح عند كلب البوليس مثلاً، وحاسة الشم قوية أيضاً عند الذين يبيعون الروائح والعطور، فأنت تقول رائحة طيبة، لكن قليل مَنْ يميز بين هذه الروائح، أما بائع الروائح فرغم امتلاء أنفه بهذه الروائح الطيبة إلا أنه لا يستطيع أن يُميِّزها فيقول لك: هذه رائحة ورد، وهذه رائحة فل، وهذه كذا، وهذه كذا، فإنْ خُلِط له عدة أنواع يقول لك: هذا مخلوط.
أما سيدنا يعقوب عليه السلام فقد تميَّز في هذه الحاسة بصورة عجيبة، وتعلمون أنه ابتلي بفقد ولده يوسف - عليه السلام - حين رماه إخوته في البئر، وانتهى الأمر به إلى أنْ صار على خزائن مصر كلها، وجاءه إخوته يطلبون الميرة إلى أن أعطاهم قميصه ليجعلوه على وجه أبيه فيرتد له بصره، العجيب هنا أنه لما فصلت العير يعني: خرجت من مصر وعن حيزها السكاني لأن المنطقة السكنية تكثر الروائح فيها وتختلط، فلما خرجوا بقميص يوسف خارج المدينة، قال يعقوب عليه السلام - وهو آنذاك - بأرض فلسطين: { { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } [يوسف: 94]، لأن في قميص يوسف شيئاً من رائحته.
ومع تقدُّم العلم عرفنا أن الرائحة هي أقوى الآثار الدالة على الإنسان، وأن للرائحة بصمة كبصمة اليد أو بصمة الصوت؛ لذلك حتى في لغتنا العامية نقول (مش ح اخللي لفلان ريحه)، وكأن الرائحة هي آخر أثر يمكن أنْ يتبقَّى للإنسان في المكان.
كذلك يزيد الله في الخلق مَا يشاء في حاسة الذوق، وبعض الناس حرفته وعمله أنه ذوَّاقة يذوق الطعام، ويزيد الله في الخَلْق ما يشاء في حاسة اللمس، وكلنا رأى الصراف في البنك بمجرد أنْ تلمس أصابعه العملة يعرف جَيِّدها من زائفها.
كل هذه المعاني نفهمها من قوله تعالى: { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } [فاطر: 1] ثم تختم الآية بما يُطمئِن القلوب إلى هذه الطلاقة { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [فاطر: 1] هذه هي العلة، يعني: لا تتعجب، فهي قدرة الله التي لا يُعجزها شيء، وشيء هذه تعد جنس الأجناس؛ لأنها تشمل من الذرَّة إلى المجرَّة، وهو سبحانه يقول للشيء كُنْ فيكون، فكأنه موجود في علم الغيب ينتظر الأمر بأن يظهر.
وبعضهم قال: (يَزِيدُ في الحَلْق) بالحاء، والمراد: جمال وعذوبة الصوت؛ لأن الصوتَ وسيلةٌ لنقل خواطر المتكلم إلى السامع، وهذه يكفي لها أيُّ صوت، فإنْ كان الصوت جميلاً عَذْباً، فهذه زيادة وفضل من الله.
ومن أغرب ما رواه لنا تاريخ العرب، ويُعَدُّ دليلاً على الزيادة في الخَلْق، والمواهب التي يختصُّ الله بها مَنْ يشاء ما رُوى عن نزار ابن معد بن عدنان، وقد رزقه الله أربعة من الأولاد هم: مُضَر. ومن قبيلته جاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربيعة، وإياد، وأنمار، فلما أحسَّ نزار بدُنُوِّ أجله جمع أولاده الأربعة وقال لهم: أريد أنْ أدلَّكم على تركتكم مني قبل أن أموت: القبة الحمراء لمضر، والفرس الأسود والخباء الأسود لربيعة، والشمطاء لإياد، ومجلس القوم وندّيه لأنمار. وإنِ اختلفتم فاذهبوا إلى الأفعى الجرهمى بنجران يُفسِّر لكم كلامي.
فلما مات نزار اختلف أولاده، فذهبوا إلى الأفعى الجرهمى، وهم في طريقهم إلى نجران - وكانت من أرض اليمن - رأى مُضَر في ناحية الطريق مرعىً رعَتْ فيه إبل، وفي الجانب الآخر مرعى أحسن منه لم يُمَسّ، فقال: إن الجمل الذي رعى هنا أعور. فقال ربيعة: وهو أزور يعني: أعرج. وقال أنمار: هذا الجمل أبتر يعني مقطوع الذيل. وقال إياد: وإنه لشرود.
وبينما هم على هذه الحال قابلهم رجل ينشُد بعيره يقول: هل رأيتم بعيراً شرد مني؟ فقال مضر: أهو أعور؟ قال: نعم، قال: وأزور؟ قال: نعم، قال: وأبتر؟ قال: نعم، قال: وشرود؟ قال: نعم، هو شرود، وأنتم أخذتموه، فاحتكموا إلى الأفعى الجرهمى، لأنهم كانوا على مقربة من نجران، فلما سألهم قالوا: ما أخذنا الجمل.
فقال: إذن كيف وصفتموه لصاحبه هذا الوصف؟ قال مُضَر: لما رأيتُه رعى جانباً دون الآخر عرفتُ أنه أعور، وقال ربيعة: لما رأيتُ أثر خُفِّه على الأرض وجدت اليُمْنى سليمة البصمة على الرمال، والأخرى غير ذلك، فعرفتُ أنه أَزْور، وقال إياد: رأيت بَعْره في مكان واحد، فعرفت أنه أبتر، ولو كان له ذيل لفرَّق بَعْره هنا وهناك، فقال أنمار: لما رأيتُه يأكل من أماكن متفرقة عرفْتُ أنه شرود. فقال الأفعى الجرهمى: خَلُّوا سبيلهم، فتلك فراسة يهبها الله لمن يشاء.
ثم سألهم: مَنْ أنتم؟ فقالوا: نحن أولاد نزار بن معد بن عدنان، وقد أوصانا أبونا إذا اختلفنا أنْ نحتكم إليك، ثم قَصُّوا عليه مقالة أبيهم، فقال: القبة الحمراء التي لمضر. أعطوه كل شيء أحمر كالدنانير والنُّوق الحمر؛ لذلك سُمِّيت مضر الحمراء بعد أن صار مُضَر عَلَماً على القبيلة.
وقال: والفَرَس الأدهم والخباء الأسود لربيعة يعني: أعطوه كل شيء فيه سواد، والشمطاء لإياد: أعطوه رُذَال المال و (المدعبلات) من الغنم. أما أنمار فله الفضة البيضاء والمجلس.
وبعد أن فسَّر لهم وصية أبيهم أراد أنْ يكرمهم، فأمر كهرمانه أن يذبح لهم ذبيحة، ويُعد لهم طعاماً وشراباً، وعلى مائدة الطعام جلسوا يتحدثون، وهو يتأمل فراستهم، فقال ربيعة: ما رأيتُ أطيب من هذا اللحم، لولا أن أمه غُذِّيَتْ بلبن كلبة، فلما شربوا من الشراب قال مُضَر: شراب طيب لولا أنْ كَرْمته زُرِعت على قبر، ثم قال أنمار: هذا الرجل من سَرَاه القوم وهو سيد، إلا أنه ليس ابن أبيه، فقال إياد: والله ما رأينا كلاماً أحسن من كلامنا بعضنا مع بعض.
ثم قام الأفعى الجرهمى واستدعى الراعي الذي ذبح لهم الشاة، وسأله: ما هذه الشاة التي ذبحتَها لنا؟ فقال له: ماتت أمها بعد ولادتها، ولم يكُنْ عندنا شياه مرضعة، فأرضعتُها من كلبة، ثم سأل كهرمانة عن الشراب فقال: هو من العنبة التي زرعْتَها على قبر أبيك، فلم يَبْق إلا أنْ يسأل عن نسبه إلى أبيه، فذهب إلى أمه وقال لها: يا أمي، أخبريني مَنْ أنا؟ ومَنْ أبي؟ فأحسَّتْ الأم أنه سمع شيئاً فقالت له: لقد كان أبوك مَلِكاً مطاعاً، وذا نعمة ومال، إلا أنه لم ينجب، فخشيتُ أنْ يذهب هذا الملْك وهذا المال إلى غيره، فحدث ما حدث.
عندها عاد إلى ضيفانه وقال لهم: لم تعودوا فى حاجة إليَّ، وإنما يصبح الناس جميعاً في حاجة إليكم. فإنْ سألتَ الآن: وكيف عرف هؤلاء ما عرفوا؟ نقول: إنها فراسة وقوة وملاحظة تدخل تحت هذه الآية { يَزِيدُ فِي ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ }

تفسير الشعراوي 1-2-5 سورة فاطر




مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ٢-فاطر

مادام أنه - سبحانه وتعالى - هو الخالق، هو الخالق، فمقتضى الخَلْق أنْ يوفر الله للمخلوق ما يصلحه، فهو أولاً يحتاج إلى رحمة في بقاء حياته؛ لذلك يُنزل سبحانه المطرَ فيحيى الأرضَ بالنبات ليزرع الإنسان ويأكل ويشرب، وهذا قِوَام حياته المادية، ثم يوفر له أيضاً قوام حياته الروحية والمعنوية، فيُنزل عليه ما يحفظ قيمه، وما يُنظم حياته بأدب مع غيره، وهذا هو المنهج الذي قال الله فيه { { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } [الزخرف: 32].

وهذه الرحمة إنْ أرادها الله بعبد، فلا أحدَ يمنعها عنه { مَّا يَفْتَحِ } [فاطر: 2] يعني: يعطي ويمنح { فَلاَ مُمْسِكَ } [فاطر: 2] فلا مانع ولا حابس لها { وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ } [فاطر: 2] لا معطي { لَهُ مِن بَعْدِهِ } [فاطر: 2] أي: من بعد الله.
وتأمل الأسلوب القرآني في { مَّا يَفْتَحِ } [فاطر: 2] مقابلها يغلق، لكن الحق سبحانه لم يَقُل: وما يغلق، إنما { وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } [فاطر: 2] لماذا؟ قالوا: لأن المغلَق ربما تمكَّن أحد من فتحه بالحيلة أو بالقوة، أما { وَمَا يُمْسِكْ } [فاطر: 2] فلا أحدَ يستطيع أنْ ينال شيئاً أمسكه الله.

ومن معاني هذا الفتح وهذه الرحمة: الرسالة التي خَصَّ الله بها سيدنا رسول الله؛ لذلك قال الكفار { { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
وقالوا: { { أَءُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } [ص: 8].
فردَّ الله عليهم: { { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا.. } [الزخرف: 32].
يعني: تأدبوا مع الله، فهو الذي قسم لكم أمور الدنيا وأمور المعايش، أيترك لكم ولأهوائكم أنْ تُقسِّموا الوحي، وأنْ تجعلوه ينزل على مَنْ تهوون؟
والفتح: إزالة حاجز بين شيئين، ومنه حِسيٌّ كما نفتح الباب أو الشنطة مثلاً، كما ورد في القرآن: { { وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } [يوسف: 65].

وقد يكون الفتح أمراً معنوياً كالفتح بالخير، أو بالرحمة كالوحي الذي اختص الله به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه قوله تعالى: { { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 76] يعني: من الوحي الموجود في التوراة من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا فَتْح معنوي بالخير وبالبركة.
ومن معاني الفتح: الفصل وفضّ الإشكال بين الخصوم، كما في قوله سبحانه: { { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ } [الأعراف: 89].

وعِلَّة قوله تعالى: { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا .. } [فاطر: 2] لأنه سبحانه واحد لا شريك له، ولا إله غيره، فلو كان معه إله آخر لكان له رأي آخر، أمَّا الحق سبحانه وحده فيتصرف في مُلْكه تصرُّف مَنْ لا شريكَ له، وإلا فكيف يثق بأنه حين يقول للشيء كُنْ فيكون أن الشيء يطيعه؟
فالله يقول هذا الأمر، وهو يعلم أن الشيء سيطيع، فلا أحدَ يستطيع أنْ يقول له لا تطع، لذلك أول مَنْ شهد بالألوهية والوحدانية الواحدة هو الله سبحانه، شهد بها لنفسه سبحانه، فقال: { { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [آل عمران: 18] وهذه شهادة الذات للذات، لذلك أقبل على الأشياء بكُنْ فكانت، وسمعت، وأطاعت، ونفذت.
واقرأ: { { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [الانشقاق: 1-2] يعني: سمعتْ بوعى وحَقّ لها أنْ تسمع، وأن تطيع؛ لأنه ليس لها إله آخر يعارضها إنْ أطاعتْ.
وبعد أنْ شهد الحق سبحانه لنفسه شهادة الذات للذات شهدتْ بذلك الملائكةُ شهادةَ المشاهدة، ثم شهد أولو العلم شهادةَ التدليل: { { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ .. } [آل عمران: 18].
ثم تُذيَّل الآية بقوله تعالى: { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [فاطر: 2] نعم، ما دام أنه تعالى إله واحد لا شريك له، يرسل رحمته لمن يشاء، ويمسك عَمَّنْ يشاء فهو عزيز، والعزيز هو الذي لا يُغْلَب ولا يُمَانع، لكن هذه العزة وهذه الغلبة ليست صادرة عن بطش أو ظلم أو جبروت، إنما صادرة عن حكمة { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [فاطر: 2] فهو سبحانه حكيم في عطائه، حكيم في منعه، والحكمة - كما قلنا - هي وَضْع الشيء في موضعه المناسب.




*يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ*

٥-فاطر

وعده حَقٌّ في أنكم ستُردُّون إلى الله في الآخرة، فيحاسبكم ويُجازيكم، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وهذا مبدأ معروف ومعمول به في كل المجتمعات، حتى البدائية منها، وحتى الملاحدة يعملون بهذا المبدأ، فيعطي المُجِدَّ ويعاقب المقصِّر، بل بعض هؤلاء يضعون قوانينَ للثواب والعقاب

والمجتمع لا يستقيم أمره إلا بهذا المبدأ، فإنِ اختلَّ تطبيقه فَسَد المجتمع، وأُحبِط الأفراد، وعمّتْ الفوضى، ولم لا والمحسن لا يأخذ ثمرة إحسانه، والمجرم لا يُعاقب على جريمته؟ إذن: لا بُدَّ أنْ نربي في الناس وازعَ الرغبة في الخير، والرهبة من الشر؛ ليزداد المحسن في إحسانه، ويرعوى المسيىء عن إساءته.
وكيف لا يُقبل هذا المبدأ في عالم مليء بالمظالم والتعديات والبطش والجبروت، ثم لا يأتي الوقت الذي ينال فيه كُلٌّ ما يستحقه؟

لذلك كثيراً ما أذكر ما دار بيننا وبين الشيوعيين الذين ينكرون مسألة البعث والحساب، فكنتُ أقول لهم: لقد أخذتم أعداءكم وقتلتموهم، وصادرتم أموالهم، وفعلتم بهم الأفاعيل؛ لأنهم في نظركم غيَّروا مقاييس العطاء، فما بال مَنْ فعلوا هذا وظلموا، لكنهم أفلتوا منكم، ولم تَطُلْهم أيديكم بعقاب؟
وما بال الظالمين قبلكم وبعدكم؟ أليس من الصواب القوْلُ بموعد يجمع هؤلاء جميعاً للحساب، حيث ينال كل منهم جزاءه؟ أليس هذا الجزاء يسعدكم ويُثلج صدوركم حين تروْنَ الظالم يُؤخذ بظلمه.
إذن: كان عليكم أنْ تؤمنوا بهذا اليوم، لا أنْ تنكروه وتكفروا به، وهو يقوم على نفس المبدأ الذي تنادون به أنتم.

لذلك تلاحظ أن النداء هنا لكل الناس: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } [فاطر: 5] أي: وعده بالقيامة والبعث والحساب، فهذه مسألة يُخاطب بها كل الناس، ووَعْد الله حقٌّ؛ لأن الوعد يأخذ حقيَّة من الواعد، ومن قدرته على إنفاذ وعده، ومَنْ أقدرُ من الله؟
إذن: ينبغي أن نثِقَ في الوعد إنْ جاء من الله سبحانه، ولا نثق في وعد مَنْ لا قدرةَ له في ذاته.

وسبق أن بيَّنا أن الإنسان يَعِد وينوي الوفاء وقت الوعد، لكنه لا يملك أسباب الوفاء، فربما طرأ عليه طارئ، أو تغيَّرت الظروف، فحالتْ بينه وبين الوفاء بوعده؛ لذلك يُعلمنا ربنا أدباً عالياً في هذه المسألة في سورة الكهف، فيقول سبحانه: { { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ.. } [الكهف: 23-24] فتعليق فِعْلك على مشيئة ربك يُعفيك من الكذب إنْ عجزْتَ عن الوفاء، فَلَك أَن تقول: نويتُ الوفاء، لكن الله لم يشأ.
لذلك لا يُوصَف وعد بالحقية إلا وعد الله؛ لأنه سبحانه وحده الذي يملك كل أسباب الوفاء بوعده. ولا يعوقه عن الوفاء شيء، ولا يمانعه أحد.

وما دام أن وعد الله حَقٌّ { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } [فاطر: 5] لا تخدعنَّكم؛ لأن الناس طبائع، منهم مَنْ يغتر بثناء الناس عليه، ومنهم مَنْ يغتر في ذاته، وهذا هو الذي تغرُّه الحياة الدنيا بشهواتها، فيعيش فيها بلا تكاليف وبلا التزامات، كما فعل الكفار حين عبدوا الحجارة، لأنها آلهة بلا تكاليف.
لذلك يحذرنا ربنا: لا تخدعنكم الدنيا عن شيء آخر أعلى منها هو الآخرة، ويكفي ذَمًا لهذه الحياة أن الله تعالى سماها دُنْيا، والمقابل للدنيا حياة عليا هي الآخرة، فالمعنى: لا تخدعنكم الدنيا عن مطلوب الله الذي يؤهلكم لحياة أخرى عُلْيا.





وسبق أنْ بيَّنا أن الدنيا بالنسبة للإنسان هي مدة بقائه فيها، لا عمر الدنيا كله، وعمرك في الدنيا رغم قِصَره هو عمر مظنون، ونعيمك فيها على قدر حركتك فيها، أما عمرك في الآخرة فمتيقن، ونعيمك فيها على قدر إمكانات الله، وأنت مهما بلغتَ من نعيم الدنيا يُنغِّصه عليك أنْ يزول، إما أن تتركه أنت وتموت، أو يتركك هو فتظل في الدنيا رغم غِنَاك وتمتعك بها، مُؤرَّقاً مشغولَ البال خائفاً من فوات النعمة، أما في الآخرة فالنعمة باقية دائمة، لا مقطوعة ولا ممنوعة. إذن: إنِ اغتررتَ بالدنيا فأجْرِ هذه المقارنة.
لذلك، لما تكلَّم الحق سبحانه عن هذه الحياة وصفها بأنها دُنْيا، ولما تكلم عن الآخرة قال: { { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [العنكبوت: 64] فمعنى الحيوان أي: الحياة الحقيقية الباقية التي لا يهددها موْتٌ ولا فناء، فيجب - إذن - أنْ تتنبه، وأنْ تختار البديل الأرجح والأنفع لك؛ لذلك نقول للذين اعتمدوا على الله وعاشوا في كَنَف الله وعلى منهج الله نقول: إنهم عرفوا كيف يسوسون حياتهم، فأخذوها من أقصر الطرق، ونَصِف هؤلاء بالمكر، والمراد المكر العالي المكر الحسن.
وفي موضع آخر، يُبيِّن الحق سبحانه لنا حبائلَ الدنيا ووسائل غرورها، فيقول سبحانه: { {
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [آل عمران: 14].
وقوله سبحانه: {
وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } [فاطر: 5] أي: الشيطان، فالخداع والغرور إما أن يكون من النفس ذاتها بدون مؤثر خارجي، وإما أنْ يوجد شيطان سُوءٍ يغرُّك ويُوسوس لك، إذن: أنت أمام عدوين، إما الدنيا بشهواتها، وإما الشيطان بهَمْزه ونَزْغه، وقد حذرنا ربنا منه، فقال: { { وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأعراف: 200].
تعني: تنبه لهذا العدو، وكُنْ منه على حذر، فعداوته لك مُسْبقة منذ أبيك آدم، وكُرْهه لك واضح مُعْلَن، فينبغي أنْ يكون لك معه موقف











الكلمات الدلالية (Tags)
1-2-5, الشعراوى, تفسير, صورة, فاطر


الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تفسير الشيخ الشعراوى(سورة التوبة)120-122 امانى يسرى محمد القرآن الكريم 0 10-31-2023 06:41 PM
تفسير الشيخ الشعراوى (سورة الأنفال) 20-23 امانى يسرى محمد القرآن الكريم 0 07-19-2023 03:32 AM
تفسير الشيخ الشعراوى( سورة الأعراف)10-14 امانى يسرى محمد القرآن الكريم 0 03-07-2023 07:31 AM
تفسير سورة فاطر تفسير السعدي(من كتاب تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) امانى يسرى محمد القرآن الكريم 1 09-12-2022 11:02 PM
سورة فاطر مكتوبة بنت الصعيد القرآن الكريم 0 03-14-2019 05:52 AM


الساعة الآن 06:58 PM.


Powered by vBulletin Version 3.8.8 Alpha 1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd Trans
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.

خيارات الاستايل

  • عام
  • اللون الأول
  • اللون الثاني
  • الخط الصغير
  • اخر مشاركة
  • لون الروابط
إرجاع خيارات الاستايل