Warning: Division by zero in [path]/includes/class_postbit.php(294) : eval()'d code on line 80

Warning: Division by zero in [path]/includes/class_postbit.php(294) : eval()'d code on line 80
التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3 - منتدي عالمك
للنساء فقط

القرآن الكريم

كل ما يخص القرآن الكريم من تجويد وتفسير وكتابة, القرآن الكريم mp3,حفظ وتحميل واستماع. تفسير وحفظ القران,القران الكريم صوت,ادعية و اذكار يوجد هنا قراءة القرآن أدعية أذكار شريفة و أحاديث إسلامية,القران الكريم قراءة,انشطة حفظ القرآن الكريم و التفسير و التجويد,تنزيل القران الكريم على الجوال,القران الكريم بصوت احمد العجمي.

نسخ رابط الموضوع
https://vb.3almc.com/showthread.php?t=28221
1108 1
05-23-2022
#1  

افتراضيالتفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3



التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3




المقصود بقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة}


يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُون}، والسؤال: هل تجب الزكاة في الأوراق النقدية؟ وهل سبب عذاب الله للمكتنز عدم إخراج الزكاة المفروضة أم عدم التصدق؟ ولو تحول المال إلى عقارات بقصد التجارة أو الاستثمار للاستفادة من ريعها فهل تجب الزكاة في قيمة العقارات أم في ريعها فقط؟ وهل تجب الزكاة في عقار السكن والسيارة الخاصة والمزرعة؟
التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3

الاجابة

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فالمقصود من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} هو المال المُدَّخر إن كان من الذهب أو الفضة أو غيرهما، وهو مملوك لصاحبه، زائد عن حاجته الأصلية، وهو نامٍ بالغ النصاب حيث تجب فيه الزكاة.
والمقصود بقوله تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ} يعني لا يؤدون زكاتها، يقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَيْهِ ـ يَعْنِي شِدْقَيْهِ ـ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلا: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}) رواه البخاري.
وروى الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت (الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله كَبُرَ ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع أحدنا أن يترك مالاً لولده يبقى بعده. فقال عمر: أنا أفرج عنكم، قال: فانطلقوا وانطلق عمر واتبعه ثوبان، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا نبي الله، قد كَبُرَ على أصحابك هذه الآية. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيِّب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث في أموال تبقى بعدكم» قال: فكبر عمر، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرك بخير ما يكنزه المرء؟ المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته».
وبناء على ذلك:
أولاً: من أدَّى زكاة ماله لا يعدُّ كانزاً للمال مهما كثُر، وهو ليس مشمولاً بهذا الوعيد، لأن الوعيد لتارك الزكاة، وليس لتارك صدقة النافلة.
ثانياً: إذا حوَّلت الذهب والفضة إلى أوراق نقدية فإن الزكاة واجبة عليك في الأوراق النقدية، وزكاة زكاة الذهب والفضة، أي ربع العشر (2.5%).
ثالثاً: إذا حوَّلت الذهب والفضة أو الأوراق النقدية إلى عقارات بقصد التجارة فتجب فيها زكاة العروض التجارية، التي هي نفس زكاة الذهب والفضة والأوراق النقدية، أي ربع العشر (2.5%). أما إذا حُوِّل المالُ إلى عقارات بقصد الاستفادة من ريعها، فإن الزكاة تجب في الغلة فقط دون العقار، إذا تحقَّقت فيها شروط الزكاة.
رابعاً: ما كان مملوكاً لك من عقار للسكن وسيارة خاصة ومزرعة بقصد الانتفاع منها لا بقصد التجارة، لا تجب فيها الزكاة. هذا، والله تعالى أعلم.




التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3




يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. ويقول مخبراً عن السيدة مريم أنها قالت: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمَاً﴾.
فهل هناك فارق بين الصيام والصوم؟


فَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ المُبَارَكِ لَهُ صُورَةٌ وَلَهُ حَقِيقَةٌ؛ أَمَّا صُورَتُهُ: فَتَكُونُ بتَرْكِ الطَّعَامِ وَالـشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ مِنْ طُلُوعِ الفَجْرِ الصَّادِقِ إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَأَمَّا حَقِيقَتُهُ: فَتَكُونُ بِتَرْكِ المَعَاصِي وَالمُخَالَفَاتِ في جَمِيعِ الجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ.
فَالصِّيَامُ هُوَ الامْتِنَاعُ عَنِ المُفْطِرَاتِ الحِسِّيَّةِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَمُعَاشَرَةِ زَوْجَةٍ.
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَهُوَ الامْتِنَاعُ عَنِ المُفْطِرَاتِ المَعْنَوِيَّةِ مِنْ غِيبَةٍ وَنَمِيمَةٍ وَقَوْلِ زُورٍ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِنَ المَعَاصِي.

وبناء على ذلك:
فَالصِّيَامُ هُوَ الامْتِنَاعُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ.
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَهُوَ الامْتِنَاعُ عَنِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ، وَهِيَ أُمُورٌ مَعْنَوِيَّةٌ، كَمَا في قَوْلِ السَّيِّدَةِ مَرْيَمَ: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمَاً﴾. وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَالمَطْلُوبُ مِنَ المُسْلِمِ أَنْ يُحَقِّقَ في صِيَامِهِ صُورَتَهُ وَحَقِيقَتَهُ، فَيَمْتَنِعَ عَنِ الطَّعَامِ وَالـشَّرَابِ وَجَمِيعِ المُفْطِرَاتِ الحِسِّيَّةِ، وَيُتَوِّجَ ذَلِكَ بِتَرْكِ المَعَاصِي الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ المُتَعَلِّقَةِ بِجَوَارِحِهِ.
اللَّهُمَّ حَقِّقْنَا بِذَلِكَ. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.

,,,,,,,,,,,,,,,,,


ما هو تفسير قول الله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرَاً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾؟


هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تَكَلَّمَ فِيهَا العُلَمَاءُ مِنْ مُـفَسِّرِينَ وَفُقَهَاءَ؛ بَعْضُهُمْ قَالَ بِأَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾.
روى الشيخان عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾. كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ، حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا؛ فَنَسَخَتْهَا.
وَبَعْضُهُمْ قَالَ: الآيَةُ الكَرِيمَةُ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً، بَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ، وَهِيَ تَتَحَدَّثُ عَنِ الرَّجُلِ الكَبِيرِ وَالمَرْأَةِ الكَبِيرَةِ الَّذَيْنَ يَصْعُبُ عَلَيْهِمَا الصِّيَامُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصِّيَامُ لَيْسَ لِمَرَضٍ أَو لِسَفَرٍ، فَرُخِّصَ لَهُمْ أَنْ يُطْعِمُوا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينَاً.

وبناء على ذلك:
فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾. فَهُوَ صَحِيحٌ.
وَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ الآيَةَ مُحْكَمَةٌ فَالمَعْنَى صَحِيحٌ، وَيَكُونُ مَعْنَى الآيَةِ: وَعَلَى الذينَ يَصُومُونَ، وَلَكِنَّهُمْ يَجِدُونَ مَشَقَّةً في صِيَامِهِمْ بِسَبَبِ الشَّيْخُوخَةِ وَالعَجْزِ وَالهَرَمِ، فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ إِنْ أَفْطَرُوا، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرَاً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾. هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمِقْدَارِ الفِدْيَةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الآيَةِ: إِنَّ الذي يُرِيدُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى إِطْعَامِ أَكْثَرَ مِنْ مِسْكِينٍ، فَيُطْعِمُ مِسْكِينَيْنِ أَو أَكْثَرَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. هذا، والله تعالى أعلم.
,,,,,,,,,,,


يقول الله تعالى في سورة الأنعام: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾. ويقول تعالى في سورة الإسراء: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾.
فما هو الفارق بين الآيتين؟

فَالآيَةُ التي في سُورَةِ الأَنْعَامِ: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾. لَمَّا كَانَ الآبَاءُ يُعَانُونَ مِنَ الفَقْرِ وَالجُوعِ كَانُوا يَقْتُلُونَ أَوْلَادَهُمْ لِمَا يُعَانُونَ هُمْ مِنَ الجُوعِ وَالحَاجَةِ، فَجَاءَتِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ تُبَيِّنُ لَهُمْ أَلَّا يَخَافُوا عَلَى نَقْصِ مَا عِنْدَهُمْ مِمَّا يَحْتَاجُونَهُ، فَقَالَ تعالى: ﴿نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ﴾. وَنُذْهِبُ فَقْرَكُمْ وَجُوعَكُمْ وَنَرْزُقُ مَنْ سَيَأْتِيكُمْ.
وَالآيَةُ الثَّانِيَةُ التي في سُورَةِ الإِسْرَاءِ: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾. وَفِي هَذِهِ الآيَةِ لَمَّا كَانَ الآبَاءُ عِنْدَهُمْ مَا يَكْفِيهِمْ، وَلَا يَعِيشُونَ الإِمْلَاقَ، وَلَكِنَّهُمْ يَخَافُونَ وُقُوعَهُ بِهِمْ بِسَبَبِ مُشَارَكَةِ مَنْ يَأْتِيهِمْ مِنَ الأَوْلَادِ، فَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ سَتُرَبُّونَ مِنَ الأَوْلَادِ لَنْ يَأْخُذُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنَ الرِّزْقِ، فَاللهُ تعالى يَرْزُقُهُمْ بِرِزْقٍ جَدِيدٍ، وَيَرْزُقُكُمْ كَمَا كَانَ يَرْزُقُكُمْ عَلَى الدَّوَامِ.

وبناء على ذلك:
فَفِي الآيَتَيْنِ نَهْيٌ عَنْ قَتْلِ الأَوْلَادِ بِسَبَبِ الفَقْرِ، إِنْ كَانَ مَوْجُودَاً وَاقِعَاً، أَو كَانَ خَوْفَاً مِنْ وُقُوعِهِ في المُسْتَقْبَلِ.
فَالآيَةُ في سُورَةِ الأَنْعَامِ تَحَدَّثَتْ عَنِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الأَوْلَادِ بِسَبَبِ الفَقْرِ الوَاقِعِ الحَالِّ بِهِمْ، فَقَالَ تعالى: ﴿مِنْ إِمْلَاقٍ﴾. يَعْنِي: مِنْ فَقْر وَاقِعٍ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ مُتَكَفِّلٌ بِرِزْقِ الأُصُولِ وَالفُرُوعِ.
وَالآيَةُ التي في سُورَةِ الإِسْرَاءِ تَحَدَّثَتْ عَنِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الأَوْلَادِ بِسَبَبِ خَوْفِ وُقُوعِ الفَقْرِ في المُسْتَقْبَلِ، فَقَالَ تعالى: ﴿خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾. يَعْنِي: خَوْفَ وُقُوعِ الفَقْرِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ مُتَكَفِّلٌ بِرِزْقِ الذُّرِّيَّةِ أَوَّلَاً ثُمَّ يَرْزُقُ الأُصُولَ.
فَلَمَّا كَانَ الآبَاءُ يَعِيشُونَ هُمُ الإِمْلَاقَ قَدَّمَ: ﴿نَرْزُقُكُمْ﴾ . وَلَمَّا كَانُوا يَخَافُونَ وُقُوعَ الإِمْلَاقِ بِهِمْ بِسَبَبِ خَوْفِهِمْ أَنْ يَأْخُذَ الأَبْنَاءُ مَا عِنْدَهُمْ قَدَّمَ: ﴿نَرْزُقُهُمْ﴾ . فَمَا سَيَأْكُلُونَهُ رِزْقٌ جَدِيدٌ تَكَفَّلَ بِهِ رَبُّهُمْ، وَلَيْسَ جُزْءَاً مِنْ حِصَّتِكُمْ.
وَعَلَى كُلِّ الأَحْوَالِ، لَا تَخْشَ مِنْ ضِيقِ الرِّزْقِ بِسَبَبِ وُجُودِ الأَوْلَادِ، لَا إِنْ كُنْتَ فَقِيرَاً، وَلَا إِنْ كُنْتَ تَخْشَى الفَقْرَ، لِأَنَّ الرِّزْقَ عَلَى اللهِ تعالى وَلَيْسَ عَلَيْكَ. هذا، والله تعالى أعلم.
,,,,,,,,,,,,,,,


ما تفسير قول الله تعالى حكاية عن سيدنا إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمَاً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾؟

هَذَا مِنْ دُعَاءِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ أَنْ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَظَّمَ شَأْنَهُ، وَعَدَّدَ نِعْمَتَهُ مِنْ لَدُنْ خَلْقِهِ إلى حِينِ وَفَاتِهِ، مَعَ مَا يَرْجُوهُ في الآخِرَةِ مِنْ رَحْمَتِهِ، كَمَا قَالَ تعالى عَنْهُ: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾. بَعْدَ هَذَا دَعَا بِقَوْلِهِ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمَاً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.
فَقَدْ سَأَلَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أُمُورَاً تَجْعَلُهُ مِنَ الأَخْيَارِ المُصْطَفَيْنَ، للتَّعْلِيمِ وَالاقْتِدَاءِ بِهِ، وَتِلْكَ الأُمُورُ هِيَ:
أولاً: سَأَلَ اللهَ تعالى أَنْ يَهَبَ لَهُ حُكْمَاً، يَعْنِي: عِلْمَاً وَفَهْمَاً وَمَعْرِفَةً يُنَوِّرُ بِهَا قَلْبَهُ الشَّرِيفَ، لِيَتَعَرَّفَ عَلَى اللهِ تعالى، وَأَنْ يُدْرِكَ الحَقَّ وَالصَّوَابَ مِنْ أَجْلِ العَمَلِ بِهِ.
ثانياً: أَنْ يُلْحِقَهُ اللهُ تعالى بِالصَّالِحِينَ المُنَزَّهِينَ الكُمَّلِ.
ثالثاً: أَنْ يَجْعَلَ لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ، يَعْنِي: ذِكْرَاً جَمِيلَاً بَعْدَ وَفَاتِهِ، يُذْكَرُ بِهِ في الدُّنْيَا لِيُقْتَدَى بِهِ في الخَيْرِ.
رابعاً: أَنْ يَجْعَلَهُ اللهُ تعالى مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، يَتَمَتَّعُ بِهَا وَبِخَيْرَاتِهَا وَنَعِيمِهَا، كَمَا يَتَمَتَّعُ الوَارِثُ بِإِرْثِ مُوَرِّثهِ في الدُّنْيَا.
خامساً: طَلَبَ المَغْفِرَةَ مِنَ اللهِ تعالى لِأَبِيهِ، لِأَنَّهُ وَعَدَ أَبَاهُ بِذَلِكَ: ﴿سَأَسْتَغْفِر ُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيَّاً﴾. وَلَكِنْ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ.
سادساً: ثُمَّ سَأَلَ مَوْلَاهُ تعالى أَنْ يُجِيرَهُ مِنَ الخِزْيِ وَالهَوَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.
وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِ مِنَ اللهِ تعالى، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ.

وبناء على ذلك:
فَالمَقْصُودُ بِالحُكْمِ مِنْ دُعَاءِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، العِلْمُ وَالمَعْرِفَةُ وَالفَهْمُ عَنِ اللهِ تعالى، حَتَّى يَضَعَ كُلَّ أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ في مَحَلِّهِ. هذا، والله تعالى أعلم.
التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3


ما تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾؟
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَخَيْرُ مَا يُفَسِّرُ القُرْآنَ الكَرِيمَ القُرْآنُ الكَرِيمُ، ثُمَّ السُّنَّةُ المُطَهَّرَةُ، روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾. قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟
فَنَزَلَتْ: ﴿لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾.
وفي رِوَايَةٍ للإمام البخاري أَيْضَاً: قَالَ عَبْدُ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾.
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟
قَالَ: «لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ ﴿لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ بِشِرْكٍ، أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: ﴿يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ».
وبناء على ذلك:
فَالذُّنُوبُ وَالمَعَاصِي وَالكَبَائِرُ لَيْسَتْ مِنَ الشِّرْكِ إِذَا لَمْ يَسْتَحِلَّ العَبْدُ الكَبَائِرَ، وَلَكِنَّ اقْتِرَافَ الصَّغَائِرِ يُجَرِّئُ صَاحِبَهَا عَلَى ارْتِكَابِ الكَبَائِرِ، وَارْتِكَابُ الكَبَائِرِ قَدْ يَدْفَعُ صَاحِبَهَا لِاسْتِحْلَالِ مَا حَرَّمَ اللهُ تعالى.
لِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: المَعَاصِي بَرِيدُ الكُفْرِ.
فَالمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾. أَيْ: بِشِرْكٍ، لِذَلِكَ فَالمُؤْمِنُ إِذَا وَقَعَ في المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ سُلُوكَاً دُونَ اعْتِقَادٍ فَهُوَ إلى التَّوْبَةِ أَقْربُ، أَمَّا مَنْ وَقَعَ فِيهَا اعْتِقَادَاً وَاسْتِحْلَالَاً وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى، فَقَدْ لَبَسَ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ، يَعْنِي بِشِرْكٍ، حَيْثُ حَرَّمَ اللهُ تعالى، وَهُوَ يُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللهُ تعالى وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى. هذا، والله تعالى أعلم.
التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3

﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾
ما تفسير قول الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾؟
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أولاً: قَوْلُهُ تعالى في حَقِّ أَهْلِ النَّارِ: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾. هَذَا الاسْتِثْنَاءُ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾. لَا يَدُلُّ عَلَى فَنَاءِ النَّارِ، أَو خُرُوجِ الكَفَرَةِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ في عُصَاةِ المُؤْمِنِينَ الذينَ فَعَلُوا فِعْلَ الكَفَرَةِ مَعَ عَدَمِ الاسْتِحْلَالِ، فَإِذَا شَاءَ اللهُ تعالى أَنْ يُعَذِّبَهُمْ في نَارِ جَهَنَّمَ عَذَّبَهُمْ فِيهَا زَمَانَاً، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَالمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ بِرَحْمَةِ اللهِ تعالى أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ، فَلَا يَبْقَى في النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَو لَمْ يَعْمَلْ خَيْرَاً قَطُّ.
فَالاسْتِثْنَاءُ هُنَا شَامِلٌ لِعُصَاةِ المُؤْمِنِينَ الذينَ شَاءَ اللهُ تعالى أَنْ يُعَذِّبَهُمْ في نَارِ جَهَنَّمَ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ.
ثانياً: أَمَّا قَوْلُهُ تعالى في حَقِّ أَهْلِ الجَنَّةِ ـ جَعَلَنَا اللهُ تعالى مِنْهُمْ ـ: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾. لَا يَعْنِي أَنَّ نَعِيمَ أَهْلِ الجَنَّةِ يَنْقَضِي، أَو يَزُولُ، أَو يَخْرُجُ أَهْلُ الجَنَّةِ مِنَ الجَنَّةِ بَعْدَ دُخُولِهَا، وَهَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تعالى: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾. يَعْنِي: غَيْرَ مُنْقَطِعٍ.
وَهَذَا مَا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تعالى: ﴿إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ﴾. فَهُمْ آمِنُونَ مِنَ المَوْتِ، آمِنُونَ مِنَ الخُرُوجِ، آمِنُونَ مِنَ الأَمْرَاضِ وَالأَحْزَانِ وَكُلِّ مَا يُكَدِّرُ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانَاً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾. وَكَمَا قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ المُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إِلَّا المَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجَحِيمِ * فَضْلَاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾.
وَأَمَّا الاسْتِثْنَاءُ في هَذِهِ الآيَةِ فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ في أَوَّلِ أَزْمِنَةِ يَوْمِ القِيَامَةِ، يَعْنِي هُنَاكَ طَائِفَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ ابْتِدَاءً، بَلْ يَدْخُلُونَهَا نِهَايَةً، فَإِنْ دَخَلُوهَا صَارُوا آمِنِينَ.
وبناء على ذلك:
فَالاسْتِثْنَاءُ في أَهْلِ النَّارِ هُوَ في النِّهَايَةِ، حَيْثُ تَشْمَلُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ، وَرَحْمَةُ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ؛ وَأَمَّا الاسْتِثْنَاءُ في أَهْلِ الجَنَّةِ فَهُوَ في البِدَايَةِ، فَهُنَاكَ مَنْ لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ ابْتِدَاءً، بَلْ يَدْخُلُهَا نِهَايَةٍ.
نَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُكْرِمَنَا بِدُخُولِ الجَنَّةِ ابْتِدَاءً. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.

التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3
ما تفسير قول الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورَاً﴾؟

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَالعِبَادَةُ للهِ تعالى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً عَلَى أَسَاسٍ مِنَ الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ مَا جَعَلَهُ الشَّرْعُ صَالِحَاً، مَعَ الإِخْلَاصِ للهِ تعالى فِيهِ، قَالَ تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلَاً صَالِحَاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً﴾.
فَالإِخْلَاصُ للهِ تعالى هُوَ أَسَاسُ كُلِّ العِبَادَاتِ، وَهُوَ مَقْصِدُ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَيْهِ المَدَارُ يَوْمَ القِيَامَةِ.
فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورَاً﴾. إِشَارَةٌ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، حِينَ يُحَاسِبُ اللهُ تعالى العِبَادَ، فَكُلُّ عَمَلٍ لَمْ يُبْنَ عَلَى الإِيمَانِ وَالمُتَابَعَةِ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَ الإِخْلَاصِ، مُعَرَّضٌ لِأَنْ يَجْعَلَهُ اللهُ تعالى هَبَاءً مَنْثُورَاً.
وَقَدْ أَجْمَعَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّيَاءَ في الأَعْمَالِ مُحْبِطٌ للعَمَلِ، فَلَا يُجْزَى عَلَيْهَا العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الـشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلَاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وبناء على ذلك:
فَهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ مِنْ أَخْوَفِ الآيَاتِ، وَلَهَا أَثَرٌ عَظِيمٌ في نُفُوسِ المُؤْمِنِينَ الأَتْقِيَاءِ، لِذَلِكَ وَصَفَهُمُ اللهُ تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾.
لِأَنَّ الإِخْلَاصَ هُوَ سِرُّ العِبَادَاتِ لِقَبُولِهَا عِنْدَ اللهِ تعالى، فَالمُؤْمِنُ يَخَافُ أَنْ يَكُونَ الرِّيَاءُ دَخَلَ عَلَى أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ فَأَحْبَطَهَا، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدَاً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ﴾. هذا، والله تعالى أعلم.
التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3

ما هي الباقيات الصالحات، التي قال الله تعالى فيها: ﴿وَالْبَاقِيَا تُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابَاً وَخَيْرٌ أَمَلَاً﴾؟

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَدْ جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام أحمد والحاكم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ».
قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «المِلَّةُ».
قِيلَ: وَمَا هِيَ؟
قَالَ: «التَّكْبِيرُ، وَالتَّهْلِيلُ، وَالتَّسْبِيحُ، وَالتَّحْمِيدُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ». وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ كَمَا ذَكَرَ الذَّهَبِيًّ.
وَذَكَرَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ هِيَ الكَلِمَاتُ الخَمْسَةُ المَذْكُورَةُ في هَذَا الحَدِيثِ الشَّرِيفِ: سُبْحَانَ اللهِ، وَالحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.
وَبَعْضُ الفُقَهَاءِ قَالَ: هِيَ جَمِيعُ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَخَاصَّةً الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ، هِيَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ.
وبناء على ذلك:
فَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ هِيَ كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الـشَّرِيفِ، وَإِنْ كَانَ الحَدِيثُ ضَعِيفَاً، وَهِيَ تَشْمَلُ جَمِيعَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ التي تُرْضِي اللهَ تعالى، وَسُمِّيَتْ بَاقِيَاتٍ، لِأَنَّهَا تَبْقَى لِصَاحِبِهَا لَا تَزُولُ وَلَا تَفْنَى كَمَا هُوَ الحَالُ في زِينَةِ الحَيَاةِ الدُّنيَا، وَسُمِّيَتْ صَالِحَاتٍ، لِأَنَّهَا تُرْضِي اللهَ تعالى، بِسَبَبِ كَوْنِهَا وَقَعَتْ كَمَا أَرَادَ اللهُ تعالى. هذا، والله تعالى أعلم.







يقول الله تعالى عن سيدنا إدريس عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانَاً عَلِيَّاً﴾.
ما هو هذا المكان العلي؟


جَاءَ في صَحِيحِ الإِمَامِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ سَيِّدَنَا إِدْرِيسَ لَيْلَةَ المِعْرَاجِ في السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ.
يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانَاً عَلِيَّاً﴾. ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ.

فَالمَكَانُ العَلِيُّ هُوَ السَّمَاءُ الرَّابِعَةُ؛ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ رَفْعِ سَيِّدِنَا إِدْرِيسَ إلى السَّمَاءِ حَيَّاً أَمْ مَيْتَاً، لَمْ يَثْبُتْ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في ذَلِكَ شَيْءٌ، وَهُنَاكَ بَعْضُ القِصَصِ الإِسْرَائِيلِيَّةِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا تَقُولُ بِأَنَّهُ رُفِعَ حَيَّاً وَقُبِضَ في السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، وَلَكِنْ كَمَا قُلْتُ، اللهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ هَذَا الكَلَامِ، فَهُوَ مِنَ الإِسْرَائِيلِيَّاتِ .

وبناء على ذلك:

فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ اعْتِقَادَاً جَازِمَاً بِأَنَّ سَيِّدَنَا إِدْرِيسَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسلِيمِ رُفِعَ مَكَانَاً عَلِيَّاً وَهُوَ السَّمَاءُ الرَّابِعَةُ، وَلَا نَقُولُ بَعْدَ هَذَا الكَلَامِ كَلَامَاً، لِأَنَّهُ مِنَ الأُمُورِ الغَيْبِيَّةِ التي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ تعالى، وَلَمْ يَثْبُتْ لَا في القُرْآنِ وَلَا في السُّنَّةِ أَنَّهُ رُفِعَ حَيَّاً ثُمَّ قُبِضَ، أَو أَنَّهُ مَا زَالَ حَيَّاً. هذا، والله تعالى أعلم.


التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3
ما هو تفسير قول الله تعالى:
﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ﴾؟


الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ﴾. رَاجِعٌ إلى العَبْدِ الذي قَالَ الله تعالى فِيهِ: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾.
يُخْبِرُ اللهُ تعالى بِأَنَّهُ مَا مِنْ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا وَلَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنَ المَلَائِكَةِ يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهِ، حَرَسٌ بِاللَّيْلِ، وَحَرَسٌ بِالنَّهَارِ، يَحْفَظُونَهُ مِنَ الأَسْوَاءِ وَالحَادِثَاتِ، كَمَا يَتَعَاقَبُ مَلَائِكَةٌ آخَرُونَ لِحِفْظِ الأَعْمَالِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.

روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ».

وروى الترمذي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالتَّعَرِّيَ، فَإِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لَا يُفَارِقُكُمْ إِلَّا عِنْدَ الغَائِطِ، وَحِينَ يُـفْضِي الرَّجُلُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَحْيُوهُمْ وَأَكْرِمُوهُمْ».

وبناء على ذلك:

فَالضَّمِيرُ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ﴾. رَاجِعٌ إلى العَبْدِ، وَالمَعْنَى: أَنَّهُ مَا مِن عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنَ المَلَائِكَةِ الحَفَظَةِ، وَوَصَفَهُمْ بِالمُعَقِّبَاتِ، إِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ تَعْقِبُ مَلَائِكَةِ النَّهَارِ، وَبِالعَكْسِ، وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّهُمْ يَتَعَقَّبُونَ أَعْمَالَ العِبَادِ وَيَتَتَبَّعُونَهَا بِالحِفْظِ وَالكُتُبِ.

وَلَهُ مُعَقِّبَاتٌ كَذَلِكَ يَحْفَظُونَهُ بِأَمْرِ اللهِ تعالى، وَيَدْفَعُونَ عَنْهُمُ البَلَاءَ إِذَا نَامُوا وَغَفَلُوا، أَو إِذَا انْتَبَهُوا وَقَامُوا، وفي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى: ﴿مِنْ أَمْرِ اللهِ﴾. يَعْنِي: عَنْ أَمْرِ اللهِ يَحْفَظُونَهُ، لَا عَنْ أَمْرِ أَنْفُسِهِمْ، فَهُمْ مُوَكَّلُونَ بِهِ بِحِفْظِهِ مِنَ اللهِ تعالى وَبِأَمْرِهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ﴾. يَعْني عَنْ جُوعٍ.
لِأَنَّهُ لَا أَحَدَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّ قَدَرَ اللهِ تعالى، فَإِذَا جَاءَ قَدَرُ اللهِ تعالى الذي قُدِّرَ عَلَيْهِ أَنْ يَقَعَ بِهِ وَقَعَ، وَتَتَخَلَّى عَنْهُ المَلَائِكَةُ بِأَمْرِ اللهِ تعالى. هذا، والله تعالى أعلم.


التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3

ما تفسير قول الله تعالى:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾؟


يَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: أَيْ: إِنَّمَا يَخْشَاهُ حَقَّ خَشْيَتِهِ العُلَمَاءُ العَارِفُونَ بِهِ، لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ المَعْرِفَةُ للعَظِيمِ القَدِيرِ العَلِيمِ المَوْصُوفِ بِصِفَاتِ الكَمَالِ المَنْعُوتِ بِالأَسْمَاءِ الحُسْنَى، كُلَّمَا كَانَتِ المَعْرِفَةُ بِهِ أَتَمَّ وَالعِلْمُ بِهِ أَكْمَلَ كَانَتِ الخَشْيِةُ لَهُ أَعْظَمَ وَأَكْثَرَ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾. قَالَ: الذينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَقَالَ ابْنُ لُهَيْعَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: العَالِمُ بِالرَّحْمَنِ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ شَيْئَاً، وَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، وَحَفِظَ وَصِيَّتَهُ وَأَيْقَنَ أَنَّهُ مُلَاقِيهِ وَمُحَاسَبٌ بِعَمَلِهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الخَشْيَةُ هِيَ التي تَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَعْصِيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَقَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: العَالِمُ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ، وَرَغِبَ فِيمَا رَغِبَ اللهُ فِيهِ، وَزَهِدَ فِيمَا سَخِطَ اللهُ فِيهِ، ثُمَّ تَلَا الحَسَنُ ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَه عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾.
وَيَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: لَيْسَ العِلْمُ عَنْ كَثْرَةَ الحَدِيثِ، وَلَكِنَّ العِلْمَ عَنْ كَثْرَةِ الخَشْيَةِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ المِصْرِيُّ عَنِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ العِلْمَ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَلَكِنَّ العِلْمَ نُورٌ يَجْعَلُهُ اللهُ في القَلْبِ، مَعْنَاهُ أَنَّ الخَشْيَةَ لَا تُدْرَكُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا العِلمُ الذي فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُتَّبَعَ، فَإِنَّمَا هُوَ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، فَهَذَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالرِّوَايَةِ، وَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: نُورٌ يُرِيدُ بِهِ فَهْمَ العِلْمِ وَمَعْرِفَةَ مَعَانِيهِ.

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: العُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ: عَالِمٌ بِاللهِ، عَالِمٌ بِأَمْرِ اللهِ، وَعَالِمٌ بِاللهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِأَمْرِ اللهِ، وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللهِ، لَيْسَ بِعَالِمٍ بِاللهِ، فَالعَالِمُ بِاللهِ وَبِأَمْرِ اللهِ الذي يَخْشَى اللهَ تعالى وَيَعْلَمُ الحُدُودَ وَالفَرَائِضَ، وَالعَالِمُ بِاللهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِأَمْرِ اللهِ الذي يَخْشَى اللهَ وَلَا يَعْلَمُ الحُدُودَ وَلَا الفَرَائِضَ، وَالعَالِمُ بِأَمْرِ اللهِ لَيْسَ العَالِمُ بِاللهِ الذي يَعْلَمُ الحُدُودَ وَالفَرَائِضَ وَلَا يَخْشَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ.

وَقَالَ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: فَكُلُّ مَنْ كَانَ بِاللهِ أَعْلَمَ، كَانَ أَكْثَرَ لَهُ خَشْيَةً، وَأَوْجَبَتْ لَهُ خَشْيَةُ اللهِ، الانْكِفَافُ عَنِ المَعَاصِي، وَالاسْتِعْدَادُ لِلِقَاءِ مَنْ يَخْشَاهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَةِ العِلْمِ، فَإِنَّهُ دَاعٍ إلى خَشْيَةِ اللهِ، وَأَهْلُ خَشْيَتِهِ هُمْ أَهْلُ كَرَامَتِهِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾.

وبناء على ذلك:
فَالفَاعِلُ في الآيَةِ هُمُ العُلَمَاءُ، وَمَعْنَى الآيَةِ أَنَّ اللهَ تعالى لَا يَخْشَاهُ أَحَدٌ إِلَّا العُلَمَاءُ، وَهُمُ الذينَ يَعْرِفُونَ قُدْرَتَهُ وَسُلْطَانَهُ، وَالآيَةُ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ خَشِيَ اللهَ تعالى فَهُوَ عَالِمٌ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ يَخْشَاهُ.
وَلَيْسَ مَعْنَى الآيَةِ أَنَّ اللهَ تعالى هُوَ الذي يَخْشَى العُلَمَاءَ، تعالى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ عُلُوَّاً كَبِيرَاً.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ العِلْمَ النَّافِعَ، وَالعَمَلَ الصَّالِحَ، وَالخَشْيَةَ مِنْكَ في السِّرِّ وَالعَلَنِ. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.


التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3
يقول الله تعالى في سورة الإسراء:
﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانَاً كَبِيرَاً﴾. لماذا لعنت الشجرة، مع أنها غير مكلفة؟


يَقُولُ الإِمَامُ البَيْضَاوِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: وَلَعْنُهَا في القُرْآنِ لَعْنُ طَاعِمِيهَا، وُصِفَتْ بِهِ عَلَى المَجَازِ للمُبَالَغَةِ، أَو وَصَفَهَا بِأَنَّهَا في أَصْلِ الجَحِيمِ فَإِنَّهُ أَبْعَدُ مَكَانٍ مِنَ الرَّحْمَةِ، أَو بِأَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ مُؤْذِيَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ طَعَامٌ مَلْعُونٌ لَمَّا كَانَ ضَارَّاً.
وَقَالَ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ: هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، وَالمُرَادُ بِلَعْنِهَا لَعْنُ آكِلِهَا، قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ﴾. وَالعَرَبُ يَقُولُونَ لِكُلِّ طَعَامٍ مَكْرُوهٍ: مَلْعُونٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَاشُور: وَالمَلْعُونَةُ: أَيِ المَذْمُومَةُ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: ﴿طَعامُ الْأَثِيمِ﴾. وَقَوْلِهِ: ﴿طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّياطِينِ﴾. وَقَوْلِهِ: ﴿كَالمُهْلِ تَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ﴾. وَقِيلَ: مَعْنَى الْمَلْعُونَةِ: أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ فِي مَكَانِ اللَّعْنَةِ، وَهِيَ الْإِبْعَادُ مِنَ الرَّحْمَةِ، لِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ فِي مَوْضِعِ الْعَذَابِ.

وبناء على ذلك:
فَالمُرَادُ مِنَ اللَّعْنِ لَهَا لَعْنُ آكِلِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْهَا إِلَّا الأَثِيمُ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ﴾. وَالأَثِيمُ مَلْعُونٌ، لِأَنَّ الشَّجَرَةَ لَا ذَنْبَ لَهَا حَتَّى تُلْعَنَ عَلَى الحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِلَعْنِ أَصْحَابِهَا عَلَى المَجَازِ. هذا، والله تعالى أعلم.


التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3

قَالَ تعالى في كتابه العظيم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾.
لقد أثبت لهم الإيمان، ثم طلب منهم الإيمان،
كيف يكون هذا؟


قَوْلُهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾. لَيْسَ مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الحَاصِلِ، لِأَنَّ العُلَمَاءَ وَالمُفَسِّرِينَ قَالُوا: هَذِهِ الآيَةُ خِطَابٌ لِأَهْلِ الكِتَابِ الذينَ آمَنُوا بِاللهِ تعالى، وَبِأَنْبِيَائِهِمْ، طَلَبَ مِنْهُم رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ تعالى، وَأَنْ يُؤْمِنُوا بِرِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ إِلَيْهِمْ وَإلى سَائِرِ الخَلْقِ جَمِيعَاً، لِأَنَّ تَتِمَّةَ الآيَةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالَاً بَعِيدَاً﴾.

وَبَعْضُ العُلَمَاءِ وَالمُفَسِّرِينَ قَالُوا: قَوْلُهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾. هُوَ طَلَبٌ مِنْهُمْ أَنْ يَثْبُتُوا عَلَى ذَلِكَ الإِيمَانِ، وَأَنْ يَسْتَمِرُّوا عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَهُمُ اليَقِينُ، وَأَنْ يَرْتَقُوا في دَرَجَاتِ الإِيمَانِ، وَأَنْ يَزْدَادُوا مِنْهُ، لِأَنَّ الإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ.

وبناء على ذلك:
فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾. لَيْسَ مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الحَاصِلِ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الثَّبَاتِ وَالاسْتِمْرَارِ وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ، كَمَا نَقُولُ في صَلَاتِنَا في كُلِّ رَكْعَةٍ: ﴿اهْدِنَا الـصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾. يَعْنِي زِدْنَا هُدَىً وَثَبَاتَاً عَلَى ذَلِكَ حَتَّى نَلْقَاكَ.
وفي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ العَبْدِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَقَلَّبُ العَبْدُ مِنْ حَالٍ إلى حَالٍ، أَلَمْ يَقُلْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنَاً كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنَاً وَيُمْسِي كَافِرَاً، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنَاً وَيُصْبِحُ كَافِرَاً، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا»؟ رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
أَلَمْ يَقُلْ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ لِسَيِّدِ الأَتْقِيَاءِ وَالأَنْقِيَاءِ وَالأَصْفِيَاءِ، وَسَيِّدِ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ﴾؟
السَّعِيدُ مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ تعالى لِطَلَبِ زِيَادَةِ الإِيمَانِ، لِأَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَلِطَلَبِ الثَّبَاتِ عَلَى الإِيمَانِ وَالاسْتِمْرَارِ عَلَيْهِ حَتَّى المَوْتِ ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾. اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ. وَهَذَا مِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. هذا، والله تعالى أعلم.

التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3

ما هو تفسير قول الله تعالى:
﴿وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾؟

قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾. هِيَ في حَقِّ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، كَمَا في الآيَةِ السَّابِقَةِ: ﴿وَاسْتَفْتَحُ وا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾. عِنْدَمَا يُلْقَى في نَارِ جَهَنَّمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾.
وفي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا».

وروى الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ لَهَا عَيْنَانِ تُبْصِرَانِ وَأُذُنَانِ تَسْمَعَانِ وَلِسَانٌ يَنْطِقُ، يَقُولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ، بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِكُلِّ مَنْ دَعَا مَعَ اللهِ إِلَهَاً آخَرَ، وَبِالمُصَوِّرِينَ».
فَالحَقُّ سُبْحَانَهُ وتعالى يَتَحَدَّثُ عَنِ الجَبَّارِينَ المُعَانِدِينَ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ تعالى: ﴿وَاسْتَفْتَحُ وا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ﴾. يَعْنِي مِنْ أَمَامِهِ جَهَنَّمُ ﴿وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ﴾. الصَّدِيدُ هُوَ المَاءُ الرَّقِيقُ الذي يَخْرُجُ مِنَ الجُرْحِ، وَهُوَ القَيْحُ الذي يَسِيلُ مِنْ أَجْسَادِ أَهْلِ النَّارِ حِينَ تُشْوَى جُلُودُهُمْ.

وَهَذَا الجَبَّارُ العَنِيدُ يَتَجَرَّعُ هَذَا الصَّدِيدَ، يَأْخُذُهُ جُرْعَةً جُرْعَةً، وَلَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْتَلِعَهُ بِسُهُولَةٍ، لِسُوءِ طَعْمِهِ وَشَكْلِهِ وَرِيحِهِ، وَمَعَ كُلِّ هَذَا: ﴿وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾. يَعْنِي يَنْظُرُ هَذَا الجَبَّارُ العَنِيدُ، فَيَرَى المَوْتَ مُحِيطَاً بِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، لَكِنَّهُ لَا يَمُوتُ، وَيُفَاجَأُ بِأَنَّ العَذَابَ يُحِيطُ بِهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، مِصْدَاقَاً لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾.
عَذَابٌ وَالعِيَاذُ بِاللهِ تعالى لَا يُطَاقُ وَلَا يُحْتَمَلُ، لِأَنَّ أَخَفَّ النَّاسِ عَذَابَاً رَجُلٌ يَغْلِي دِمَاغُ رَأْسِهِ مِنْ جَمْرَتَيْنِ، كَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ الشَّرِيفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابَاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ».
فَكَيْفَ إِذَا كَانَ العَذَابُ غَلِيظَاً وَمُضَاعَفَاً. أَجَارَنَا اللهُ مِنْ ذَلِكَ. هذا، والله تعالى أعلم.




من هو المقصود بقوله تعالى: ﴿وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ﴾؟
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَقُولُ اللهُ تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُـشْرِكُوا بِهِ شَيْئَاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالَاً فَخُورَاً﴾.
أولاً: المَقْصُودُ بِالجَارِ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، هُوَ مَنْ كَانَ مَسْكَنُهُ قَرِيبَاً مِنْكَ، أَو شَرِيكَاً مَعَكَ في عَقَارٍ، أَو تِجَارَةٍ، أَو سَفَرٍ.
وَيَقُولُ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: كُلُّ مَنْ قَارَبَ بَدَنُهُ بَدَنَ صَاحِبِهِ، قِيلَ لَهُ: جَارٌ.
روى البيهقي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: فَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ حَقَّانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ حَقٌّ؛ فَأَمَّا الذي لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ: فَالجَارُ المُسْلِمُ القَرِيبُ لَهُ حَقُّ الجَارِ، وَحَقُّ الإِسْلَامِ، وَحَقُّ القَرَابَةِ؛ وَأَمَّا الذي لَهُ حَقَّانِ: فَالجَارُ المُسْلِمُ لَهُ حَقُّ الجِوَارِ، وَحَقُّ الإِسْلَامِ؛ وَأَمَّا الذي لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ: فَالجَارُ الكَافِرُ لَهُ حَقُّ الجِوَارِ».
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، نُطْعِمُهُمْ مِنْ نُسُكِنَا؟
قَالَ: «لا تُطْعِمُوا المُشْرِكِينَ شَيْئَاً مِنَ النُّسُكِ».
فَالجَارُ ذُو القُرْبَى: هُوَ الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ، وَهُوَ جَارٌ لَكَ.
وَالجَارُ الجُنُبُ: هُوَ الذي لَا قَرَابَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَهُوَ جَارٌ لَكَ.
ثانياً: أَمَّا الصَّاحِبُ بِالجَنْبِ، فَيَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: الصَّاحِبُ بِالجَنْبِ: الزَّوْجَةُ.
وَقِيلَ: المُرَادُ بِهِ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ.
وَقِيلَ: رَفِيقُكَ الذي يُرَافِقُكَ في سَفَرٍ أَو حَضَرٍ.
وَلَا شَكَّ بِأَنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَتَنَاوَلُ الجَمِيعَ بِالعُمُومِ، لِأَنَّ الإِنْسَانَ المُؤْمِنَ مُطَالَبٌ بِالإِحْسَانِ إلى الزَّوْجَةِ، وَإلى الصَّاحِبِ في السَّفَرِ وَفي الحَضَرِ.
قَالَ تعالى في حَقِّ الزَّوْجَةِ: ﴿وَعَاشِرُوهُن َّ بِالْمَعْرُوفِ﴾.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في حَقِّ الصَّاحِبِ المُطْلَقِ: «خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ» رواه الحاكم والترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَالمَقْصُودُ بِالجَارِ الجُنُبِ هُوَ الجَارُ الذي لَا قَرَابَةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَلَقَدْ حَرَّضَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِحْسَانِ إلى الجَارِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» رواه الشيخان عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.
وَحَذَّرَنَا مِنَ الإِسَاءَةِ إِلَيْهِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ».
قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
وَالصَّاحِبُ بِالجَنْبِ، شَامِلٌ لِكُلِّ صَاحِبٍ، فَالزَّوْجَةُ صَاحِبَةٌ، قَالَ تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ﴾ أَيْ: زَوْجَتِهِ؛ وَالصَّاحِبُ في السَّفَرِ صَاحِبٌ، وَالصَّاحِبُ في الـحَضَرِ صَاحِبٌ؛ وَالإِحْسَانُ للجَمِيعِ مَطْلُوبٌ في شَرْعِنَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. هذا، والله تعالى أعلم.



التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3



ماذا يفهم من قوله تعالى: ﴿وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾. كيف تكون كسوة المرأة بالمعروف؟

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ تعالى عَلَى الزَّوْجِ كِسْوَةَ زَوْجَتِهِ، فَقَالَ تعالى: ﴿وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾.
وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ» رواه الترمذي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ» رواه الإمام مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. هذا أولاً.
ثانياً: ذَكَرَ الفُقَهَاءُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّ الكِسْوَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا عَلَى الدَّوَامِ، فَلَزِمَتِ الزَّوْجَ كَالنَّفَقَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الكِسْوَةُ كَافِيَةً للمَرْأَةِ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَالكِسْوَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرَاً يَكْسُوهَا أَدْنَى مَا يَكْفِيهَا مِنَ المَلَابِسِ الصَّيْفِيَّةِ وَالشَّتْوِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطَاً يَكْسُوهَا أَرْفَعَ مِنْ ذَلِكَ بِالمَعْرُوفِ، وَإِنْ كَانَ غَنِيَّاً كَسَاهَا أَرْفَعَ مِنْ ذَلِكَ بِالمَعْرُوفِ.
وَلَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَسْتَجِيبَ لِزَوْجَتِهِ إِذَا كَانَتْ مُـسْرِفَةً في الاسْتِعْمَالِ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ أُذَكِّرُ الزَّوْجَ بِالحَدِيثِ الذي رواه أبو داود عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟
قَالَ: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، أَوِ اكْتَسَبْتَ، وَلَا تَـضْرِبِ الْوَجْهَ، وَلَا تُقَبِّحْ، وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي البَيْتِ».
وَأُذَكِّرُ الزَّوْجَةَ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجَاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾.
وَمَعْنَى الآيَةِ يُفِيدُ النَّهْيَ عَنْ أَنْ يَنْظُرَ المَرْءُ إلى مَا مَتَّعَ اللهُ أَصْنَافَاً مِنَ الخَلْقِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ المَادِّيِّ مِنْ مَالٍ وَرَفَاهِيَةٍ في المَسْكَنِ أَو المَلْبَسِ إلى مَا هُنَالِكَ مِنْ زَهْرَةِ الحَيَاةِ وَبَهْجَتِهَا؛ وَلَيْسَ المَقْصُودُ بِـ ﴿أَزْوَاجَاً مِنْهُمْ﴾ الزَّوْجَاتِ.
وَأُذَكِّرُ الزَّوْجَةَ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ».
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. هذا، والله تعالى أعلم.


التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3

ما معنى قول الله تعالى: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى﴾؟

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾.
قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ رَأَى جِبْرِيلَ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ.
وروى الإمام البخاري عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يَا أُمَّتَاهْ، هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ؟
فَقَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شَعَرِي مِمَّا قُلْتَ (قَامَ مِنَ الفَزَعِ وَالخَوْفِ مِنْ هَيْبَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ) أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ، مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾. ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيَاً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾. وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدَاً﴾. وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الكَافِرِينَ﴾. وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ.
وفي رواية للشيخين عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فَأَيْنَ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾.
قَالَتْ: ذَاكَ جِبْرِيلُ كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ هَذِهِ المَرَّةَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ فَسَدَّ الأُفُقَ. هذا أولاً.
ثانياً: وَهُنَاكَ مَنْ قَالَ أَنَّهُ دَنَا مِنْ حَضْرَةِ مَوْلَانَا فَرَآهُ، روى ابْنُ خُزَيْمَةَ في التَّوْحِيدِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَأَبَا ذَرٍّ كَانَا يَتَأَوَّلَانِ هَذِهِ الآيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا بَيَّنَّا ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ وَتُؤُوِّلَ أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾. أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دَنَا مِنْ خَالِقِهِ عَزَّ وَجَلَّ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، وَأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا أَوْحَى، وَأَنَّ فُؤَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُكَذِّبْ مَا رَأَى، يَعْنُونَ رُؤْيَتَهُ خَالِقَهُ جَلَّ وَعَلَا.
وروى الترمذي عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ.
قُلْتُ: أَلَيْسَ اللهُ يَقُولُ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾.
قَالَ: وَيْحَكَ، ذَاكَ إِذَا تَجَلَّى بِنُورِهِ الَّذِي هُوَ نُورُهُ، وَقَدْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَمَسْأَلَةُ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ وَالمِعْرَاجِ مِنَ المَسَائِلِ التي وَقَعَ الكَلَامُ فِيهَا مُبَكِّرَاً في عَهْدِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ إلى يَوْمِنَا هَذَا.
وَأَكْثَرُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ يُثْبِتُونَ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِرَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ في لَيْلَةِ المِعْرَاجِ، وَفي هَذَا يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَأَكْثَرُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ المِعْرَاجِ. /كذا في مجموع الفتاوى.
وَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ الأَصْلَ في رُؤْيَةِ اللهِ تعالى مُمْكِنَةٌ وَلَيْسَتْ مُسْتَحِيلَةً، وَلَو كَانَتْ مُسْتَحِيلَةً في الدُّنْيَا، لَمَا سَأَلَهَا سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾.
وَيَقُولُ الإِمَامُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَلَا نُعَنِّفُ مَنْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ لِنَبِيِّنَا في الدُّنْيَا، وَلَا مَنْ نَفَاهَا، بَلْ نَقُولُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
بَلَ نُعَنِّفُ وَنُبَدِّعُ مَنْ أَنْكَرَ الرُّؤْيَةَ في الآخِرَةِ، إِذْ رُؤْيَةُ اللهِ في الآخِرَةِ ثَبَتَتْ بِنُصُوصٍ مُتَوَافِرَةٍ. اهـ. /كذا في سير أعلام النبلاء. هذا، والله تعالى أعلم.



التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3




السؤال :

قَالَ تعالى: ﴿وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. كيف يلقي سيدنا موسى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الألواح، وفيها كلام الله تعالى؟ ا

الاجابة :

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أولاً: تَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾. يَعْنِي جَعَلَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا مُوسَى مَحْبُوبَاً عِنْدَهُ، وَمَنْ كَانَ مَحْبُوبَاً عِنْدَ اللهِ كَانَ كَرِيمَاً عَلَى النَّاسِ، وَمَحْبُوبَاً عِنْدَهُمْ، وَيَفْتَحُ اللهُ لَهُ القُلُوبَ المُغْلَقَةَ، فَقَدْ فَتَحَ اللهُ تعالى لَهُ قَلْبَ فِرْعَوْنَ وَقَلْبَ زَوْجَتِهِ ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدَاً﴾. فَكَلِمَةُ ﴿وَأَلْقَيْتُ﴾ تَعْنِي: جَعَلْتُ.
ثانياً: لَمَّا رَجَعَ سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَوَجَدَ قَوْمَهُ قَدِ اتَّخَذُوا العِجْلَ، غَضِبَ غَضَبَاً شَدِيدَاً، وَحَزِنَ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الحُزْنِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفَاً﴾.
الأَسَفُ: هُوَ المُبَالَغَةُ في الحُزْنِ وَالغَضَبِ، أَمَّا كَلِمَةُ آسَفَهُ فَتَعْنِي أَغْضَبَهُ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾. يَعْنِي: فَلَمَّا أَغْضَبُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ.
فَسَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَمَا رَأَى مِنْ قَوْمِهِ مَا رَأَى غَضِبَ أَشَدَّ الغَضَبِ مَعَ أَشَدِّ الحُزْنِ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ: ﴿بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾؟
وَقَالَ لَهُمْ: ﴿يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدَاً حَسَنَاً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي﴾.
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا الخِطَابِ لِقَوْمِهِ أَرَادَ أَنْ يُعَاتِبَ أَخَاهُ سَيِّدَنَا هَارُونَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَوَضَعَ الأَلْوَاحَ التي تَلَقَّاهَا مِنْ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ جَانِبَاً لِسُؤَالِ أَخِيهِ وَلِلَوْمِهِ لَوْمَاً شَدِيدَاً، ظَنَّاً مِنْهُ أَنَّهُ قَـصَّرَ عَنْ مَقْدِرَةٍ، قَالَ تعالى عَنْ هَذَا المَوْقِفِ: ﴿وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾.
فَبَيَّنَ لَهُ سَيِّدُنَا هَارُونُ المَوْقِفَ، وَقَالَ لَهُ كَمَا أَخْبَرَنَا تعالى: ﴿قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
وَكَانَ سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَدِيدَ الغَضَبِ للهِ تعالى، لَكِنَّهُ سَرِيعُ الفَيْءِ، فَعِنْدَمَا عَرَفَ الحَقِيقَةَ مِنْ أَخِيهِ هَارُونَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. طَلَبَ الغُفْرَانَ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ أَلْقَى التَّبِعَةَ عَلَى أَخِيهِ، وَطَلَبَ المَغْفِرَةَ لِأَخِيهِ لِأَنَّهُ مَا حَمَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ غَيِّهِمْ خَوْفَاً مِنْهُمْ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ﴾. لَا يَعْنِي أَنَّهُ رَمَاهَا، بَلْ وَضَعَهَا جَانِبَاً، وَسَأَلَ اللهَ المَغْفِرَةَ لَهُ أَوَّلَاً لِأَنَّهُ جَعَلَ التَّبِعَةَ عَلَى أَخِيهِ، وَطَلَبَ المَغْفِرَةَ لِأَخِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ خَوْفَاً مِنْهُمْ. هذا، والله تعالى أعلم.

التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3


السؤال :

ما تفسير قول الله تعالى في سورة آل عمران: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾؟

الاجابة :

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾. أَيْ: هَؤُلَاءِ الذينَ كَفَرُوا بِسَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَخَذُوا يُدَبِّرُونَ للقَضَاءِ عَلَيْهِ.
وَالمَكْرُ: هُوَ التَّدْبِيرُ الذي يَجْتَهِدُ صَاحِبُهُ في إِخْفَائِهِ عَمَّنْ يَمْكُرُ بِهِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
مَكْرٌ مَحْمُودٌ: وَهُوَ أَنْ يَتَحَرَّى بِهِ فِعْلاً جَمِيلاً.
وَمَكْرٌ مَذْمُومٌ: وَهُوَ أَنْ يَتَحَرَّى بِهِ فِعْلاً قَبِيحاً.
قَالَ تعالى في المَكْرَيْنِ: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرَاً وَمَكَرْنَا مَكْرَاً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. فَمَكْرُ اللهِ تعالى مَحْمُودٌ، وَمَكْرُهُمْ مَذْمُومٌ، وَمِنْ دُعَاءِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ» رواه الترمذي وأبو داود عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
فَالكُفَّارُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَكَرُوا، يَعْنِي دَبَّرُوا حِيلَةً لِقَتْلِ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ دَبَّرَ أَمْرَاً آخَرَ لِحِمَايَتِهِ، فَأَلْقَى شَبَهَ سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الذينَ مَكَرُوا بِسَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَرَفَعَ سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَيْهِ، وَاللهُ تعالى خَيْرُ مَنْ يُدَبِّرُ الأُمُورَ، وَلَا يَغْلِبُهُ أَحَدٌ.
فَمَكْرُ اللهِ تعالى صِفَةُ مَدْحٍ في حَقِّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، وَذَلِكَ أَنَّهُ بِكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَحُسْنِ تَدْبِيرِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خِدَاعُ وَمَكْرُ المَاكِرِينَ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ حِيَلُهُمْ وَأَكَاذِيبُهُمْ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وتعالى قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيطِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَعَلَى إِفْشَالِ خُطَطِهِمْ التي دَبَّرُوهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾. فَيَعْنِي: اذْكُرْ يَا رَسُولَ اللهِ للعِظَةِ وَالاعْتِبَارِ قِصَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِذْ قَالَ اللهُ تعالى لَهُ في نِدَاءٍ رَحِيمٍ: إِنِّي مُنَجِّيكَ مِنْ أَذَى الذينَ مَكَرُوا بِكَ.
قَوْلُهُ تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾. هَذِهِ التَّوْفِيَةُ لَيْسَتْ كَتَوْفِيَةِ بَاقِي الأَنْفُسِ التي قَالَ اللهُ تعالى فِيهَا: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾.
وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ كَلِمَةَ ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الوَفَاةِ، بَلْ هِيَ مِنَ التَّوْفِيَةِ فَاللهُ تَعَالَى وَفَّاهُ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنَ البَقَاءِ فِي الأَرْضِ؛ كَمَا تَقُولُ: وُفِّيَ العَامِلُ حَقَّهُ، أَيْ: بِدُونِ نُقْصَانٍ.
وَلَيْسَ في الآيَةِ إِشَارَةٌ إلى أَنَّهُ رَفَعَهُ إِلَيْهِ رُوحَاً، كَمَا تُرْفَعُ أَرْوَاحُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، بَلْ رَفَعَهُ رُوحَاً وَجَسَدَاً، وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَاً * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾.
مَا دَامَ الذينَ مَكَرُوا بِهِ أَرَادُوا قَتْلَهُ رَفَعَهُ اللهُ رُوحَاً وَجَسَدَاً، لِأَنَّهُ مُقَابَلٌ بِالقَتْلِ وَالصَّلْبِ، وَلَا يَصْلُحُ مُقَابِلَاً لَهُمَا رَفْعُهُ بِالرُّوحِ.
وَمِمَّا يُؤَكِّدُ رَفْعَهُ رُوحَاً وَجَسَدَاً مَا وَرَدَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَاللهِ، لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمَاً عَادِلَاً، فَـلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الخِنْزِيرَ، وَلَيَضَعَنَّ الجِزْيَةَ، وَلَتُتْرَكَنَّ القِلَاصُ (جَمْعُ قَلُوصٍ وَهِيَ مِنَ الإِبِلِ كَالفَتَاةِ مِنَ النِّسَاءِ وَالحَدَثِ مِنَ الرِّجَالِ وَمَعْنَاهُ أَنْ يُزْهَدَ فِيهَا وَلَا يُرْغَبَ في اقْتِنَائِهَا لِكَثْرَةِ الأَمْوَالِ وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ القِلَاصُ لِكَوْنِهَا أَشْرَفَ الإِبِلِ التي هِيَ أَنْفَسُ الأَمْوَالِ عِنْدَ العَرَبِ) فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا، وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ، وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى المَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ». وَهَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَيَنْزِلُ بِجَسَدِهِ الطَّاهِرِ مِنَ المَلَكُوتِ الأَعْلَى.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَبْطَلَ كَيْدَ الذينَ أَرَادُوا قَتْلَ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَرَفَعَهُ تَبَارَكَ وتعالى إِلَيْهِ رُوحَاً وَجَسَدَاً، وَهَذَا الرَّفْعُ فِيهِ إِشَارَةٌ إلى مَعْنَى الكَرَامَةِ وَالإِعْزَازِ وَالحِمَايَةِ، وَأَنَّهُ تعالى حَامِيهِ مِنْهُمْ، وَمَانِعُهُ دُونَهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ قَتْلِهِ.
وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ سَيَمُوتُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ نُزُولِهِ إلى الأَرْضِ، لِأَنَّ الوَاوَ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾. لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، وَالمَعْنَى إِنِّي رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذينَ كَفَرُوا، وَمُتَوَفِّيكَ بَعْدَ أَنْ تَنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ. هذا، والله تعالى أعلم.


التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3

السؤال :

ما تفسير قول الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرَاً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾؟ وهل كان يريد أجراً على دعوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟

الاجابة

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرَاً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾. هُوَ أَمْرٌ وَاضِحٌ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُظْهِرَ تَرَفُّعَهُ وَسُمُوَّهُ عَنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا، لِأَنَّ هَذَا مِنْ شَأْنِهِ وَأَخْلَاقِهِ، فَهُوَ القَائِلُ لِعَمِّهِ: «يَا عَمِّ، وَاللهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالقَمَرَ فِي يَسَارِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، مَا تَرَكْته» كذا في الرَّوْضِ الأُنُفِ.
وَهُوَ القَائِلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَهُوَ القَائِلُ لِقَوْمِهِ عِنْدَمَا عَرَضُوا عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِكُلِّ صُوَرِهَا وَأَشْكَالِهَا وَقَالُوا لَهُ: فَإِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ بِهَذَا الحَدِيثِ مَالَاً فَذَلِكَ لَكَ عَلَى قَوْمِكَ أَنْ تَجْمَعَ لَهُ حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالَاً، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ شَرَفَاً فَنَحْنُ مُشَرِّفُوكَ حَتَّى لَا يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِكَ فَوْقَكَ وَلَا تُقْطَعَ الأُمُورُ دُونَكَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا عَنْ لَمَمٍٍ يُصِيبُكَ لَا تَقْدِرُ عَنِ النُّزُوعِ عَنْهُ بَذَلْنَا لَكَ خَزَائِنَنَا حَتَّى يُعْذَرَ في طَلَبِ الطِّبِّ لِذَلِكَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مُلْكَاً مَلَّكْنَاكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الوَلِيدِ؟». قَالَ: نَعَمْ.
فَقَرَأَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنَاً عَرَبِيَّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾. حَتَّى مَرَّ بِالسَّجْدَةِ فَسَجَدَ، وَعُتْبَةُ مُلْقٍ يَدَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهَا. رواه ابن عساكر.
فَحَاشَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْلُبَ أَجْرَاً مِنَ النَّاسِ.
إِذَا كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ وَرَسُولٍ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ﴾. فَهَلْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَطْلُبُ أَجْرَاً؟
وَكَيْفَ يَطْلُبُ أَجْرَاً وَاللهُ تعالى قَالَ لَهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرَاً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾؟
أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾. هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ كَمَا يَقُولُ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ، فَيَكُونُ المَعْنَى: لَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ عَلَى تَبْلِيغِ رِسَالَةِ رَبِّي جُعْلَاً وَلَا مُكَافَأَةً وَلَا نَفْعَاً مَادِّيَّاً، وَلَكِنْ أَطْلُبُ تَقْدِيرَ صِلَةِ الرَّحِمِ والقَرَابَةِ التي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَتَكُفُّوا شَرَّكُمْ عَنِّي، وَتَذَرُونِي أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَبِّي، فَالمَوَدَّةُ لَيْسَتْ أَجْرَاً، وَقَدْ روى الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: ﴿إِلَّا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى﴾.
قَالَ: فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ، إِلَّا وَلَهُ فِيهِ قَرَابَةٌ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ : «إِلَّا أَنْ تَصِلُوا قَرَابَةً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ».

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَاشَاهُ أَنْ يَطْلُبَ أَجْرَاً مِنَ الـبَشَرِ عَلَى تَبْلِيغِ رِسَالَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ أَجْرَهُ عَلَى اللهِ تعالى ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ﴾.
وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تعالى أَنْ يَقُولَ: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرَاً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾. يَعْنِي: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى تَبْلِيغِ رِسَالَةِ رَبِّي شَيْئَاً مِنَ الأَجْرِ وَالمَالِ، بَلْ أَطْلُبُ مِنْكُمْ أَنْ تَذَرُونِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي، فَلَا تُؤْذُونِي بِمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ القَرَابَةِ، وَطَلَبُ المَوَدَّةِ لَيْسَ أَجْرَاً، وَصَدَقَ اللهُ القَائِلُ: ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. هذا، والله تعالى أعلم.
التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3





السؤال :

ما تفسير قول الله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾؟


الاجابة :

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَدْ روى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ لِي رَجُلٌ: قَالُوا للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا أَو لَنَأْمُرَنَّهَا فَلَتُخْبِلَنَّكَ؛ فَنَزَلَتْ: ﴿وَيُخَوِّفُون َكَ﴾.
لَقَدْ كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَوِّفُونَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِن آلِهَتِهِمْ، وَيُحَذِّرُونَهُ مِنْ غَضَبِهَا، عِنْدَمَا يَصِفُهَا بِأَنَهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تَمْلِكُ حَوْلَاً وَلَا قُوَّةً، وَكَانُوا يَتَوَعَّدُونَهُ بِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُفَّ عَنْ ذِكْرِهَا بِسُوءٍ فَسَتُصِيبُهُ بِالأَذَى، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾؟
فَإِذَا كَانَ اللهُ تعالى كَافِيَهُ، فَمَنْ ذَا يُخِيفُهُ؟ وَمَاذَا يُخِيفُهُ؟ وَمَنْ قَامَ مَقَامَ العُبُودِيَّةِ، وَقَامَ بِحَقِّهَا حَقَّ القِيَامِ، فَمَنِ الذي يَشُكُّ في كِفَايَةِ اللهِ تعالى لِعَبْدِهِ، وَهُوَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ؟
﴿وَيُخَوِّفُون َكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ كَيْفَ يَخَافُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهُمْ في قَبْضَةِ اللهِ تعالى؟
فالذي يَحْرُسُهُ اللهُ تعالى لَا يُخِيفُهُ شَيْءٌ في الأَرْضِ وَلَا في السَّمَاءِ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ وَاضِحَةٌ لَا تَحْتَاجُ إلى دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، لِأَنَّ اللهَ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ في الأَرْضِ وَلَا في السَّمَاءِ، وَمَشِيئَتُهُ هِيَ النَّافِذَةُ، مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئَاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ﴾. فَاللهُ تعالى هُوَ الذي يَعْلَمُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الضَّلَالَةَ فَيُضِلُّهُ، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الهُدَى فَيَهْدِيهِ، وَإِذَا قَـضَى أَمْرَاً فَلَا رَادَّ لَهُ.
﴿أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ﴾. بَلَى؛ إِنَّهُ عَزِيزٌ قَوِيٌّ يُجَازِي كُلَّاً بِمَا يَسْتَحِقُّ، فَيَنْتَقِمُ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الانْتِقَامَ، وَيَحْفَظُ وَيَرْعَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الحِفْظَ وَالرِّعَايَةَ.
وَهَلْ هُنَاكَ أَحَدٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكْفِيَهُ اللهُ شَرَّ الأَشْرَارِ وَكَيْدَ الفُجَّارِ، كَسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾. بَلَى وَرَبِّي كَافِيهِ.
اللَّهُمَّ بِجَاهِهِ عِنْدَكَ اكْفِنَا شَرَّ الأَشْرَارِ وَكَيْدَ الفُجَّارِ بِمَا شِئْتَ وَكَيْفَ شِئْتَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.




التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3


السؤال :


قَالَ تعالى: ﴿وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. كيف يلقي سيدنا موسى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الألواح، وفيها كلام الله تعالى؟ ا


الاجابة :

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أولاً: تَذَكَّرْ قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾. يَعْنِي جَعَلَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا مُوسَى مَحْبُوبَاً عِنْدَهُ، وَمَنْ كَانَ مَحْبُوبَاً عِنْدَ اللهِ كَانَ كَرِيمَاً عَلَى النَّاسِ، وَمَحْبُوبَاً عِنْدَهُمْ، وَيَفْتَحُ اللهُ لَهُ القُلُوبَ المُغْلَقَةَ، فَقَدْ فَتَحَ اللهُ تعالى لَهُ قَلْبَ فِرْعَوْنَ وَقَلْبَ زَوْجَتِهِ ﴿وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدَاً﴾. فَكَلِمَةُ ﴿وَأَلْقَيْتُ﴾ تَعْنِي: جَعَلْتُ.
ثانياً: لَمَّا رَجَعَ سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَوَجَدَ قَوْمَهُ قَدِ اتَّخَذُوا العِجْلَ، غَضِبَ غَضَبَاً شَدِيدَاً، وَحَزِنَ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الحُزْنِ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفَاً﴾.
الأَسَفُ: هُوَ المُبَالَغَةُ في الحُزْنِ وَالغَضَبِ، أَمَّا كَلِمَةُ آسَفَهُ فَتَعْنِي أَغْضَبَهُ، كَمَا قَالَ تعالى: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾. يَعْنِي: فَلَمَّا أَغْضَبُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ.
فَسَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَمَا رَأَى مِنْ قَوْمِهِ مَا رَأَى غَضِبَ أَشَدَّ الغَضَبِ مَعَ أَشَدِّ الحُزْنِ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ: ﴿بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾؟
وَقَالَ لَهُمْ: ﴿يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدَاً حَسَنَاً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي﴾.
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا الخِطَابِ لِقَوْمِهِ أَرَادَ أَنْ يُعَاتِبَ أَخَاهُ سَيِّدَنَا هَارُونَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَوَضَعَ الأَلْوَاحَ التي تَلَقَّاهَا مِنْ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ جَانِبَاً لِسُؤَالِ أَخِيهِ وَلِلَوْمِهِ لَوْمَاً شَدِيدَاً، ظَنَّاً مِنْهُ أَنَّهُ قَـصَّرَ عَنْ مَقْدِرَةٍ، قَالَ تعالى عَنْ هَذَا المَوْقِفِ: ﴿وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ﴾.
فَبَيَّنَ لَهُ سَيِّدُنَا هَارُونُ المَوْقِفَ، وَقَالَ لَهُ كَمَا أَخْبَرَنَا تعالى: ﴿قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
وَكَانَ سَيِّدُنَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَدِيدَ الغَضَبِ للهِ تعالى، لَكِنَّهُ سَرِيعُ الفَيْءِ، فَعِنْدَمَا عَرَفَ الحَقِيقَةَ مِنْ أَخِيهِ هَارُونَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. طَلَبَ الغُفْرَانَ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ أَلْقَى التَّبِعَةَ عَلَى أَخِيهِ، وَطَلَبَ المَغْفِرَةَ لِأَخِيهِ لِأَنَّهُ مَا حَمَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى جَادَّةِ الصَّوَابِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ غَيِّهِمْ خَوْفَاً مِنْهُمْ.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ﴾. لَا يَعْنِي أَنَّهُ رَمَاهَا، بَلْ وَضَعَهَا جَانِبَاً، وَسَأَلَ اللهَ المَغْفِرَةَ لَهُ أَوَّلَاً لِأَنَّهُ جَعَلَ التَّبِعَةَ عَلَى أَخِيهِ، وَطَلَبَ المَغْفِرَةَ لِأَخِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُمْ خَوْفَاً مِنْهُمْ. هذا، والله تعالى أعلم.


التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3


السؤال :

ما تفسير قول الله تعالى في سورة آل عمران: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ * إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾؟


الاجابة :

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ﴾. أَيْ: هَؤُلَاءِ الذينَ كَفَرُوا بِسَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَخَذُوا يُدَبِّرُونَ للقَضَاءِ عَلَيْهِ.
وَالمَكْرُ: هُوَ التَّدْبِيرُ الذي يَجْتَهِدُ صَاحِبُهُ في إِخْفَائِهِ عَمَّنْ يَمْكُرُ بِهِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
مَكْرٌ مَحْمُودٌ: وَهُوَ أَنْ يَتَحَرَّى بِهِ فِعْلاً جَمِيلاً.
وَمَكْرٌ مَذْمُومٌ: وَهُوَ أَنْ يَتَحَرَّى بِهِ فِعْلاً قَبِيحاً.
قَالَ تعالى في المَكْرَيْنِ: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرَاً وَمَكَرْنَا مَكْرَاً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. فَمَكْرُ اللهِ تعالى مَحْمُودٌ، وَمَكْرُهُمْ مَذْمُومٌ، وَمِنْ دُعَاءِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ» رواه الترمذي وأبو داود عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
فَالكُفَّارُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَكَرُوا، يَعْنِي دَبَّرُوا حِيلَةً لِقَتْلِ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ دَبَّرَ أَمْرَاً آخَرَ لِحِمَايَتِهِ، فَأَلْقَى شَبَهَ سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الذينَ مَكَرُوا بِسَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَرَفَعَ سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَيْهِ، وَاللهُ تعالى خَيْرُ مَنْ يُدَبِّرُ الأُمُورَ، وَلَا يَغْلِبُهُ أَحَدٌ.
فَمَكْرُ اللهِ تعالى صِفَةُ مَدْحٍ في حَقِّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، وَذَلِكَ أَنَّهُ بِكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَحُسْنِ تَدْبِيرِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خِدَاعُ وَمَكْرُ المَاكِرِينَ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ حِيَلُهُمْ وَأَكَاذِيبُهُمْ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ وتعالى قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيطِ النَّاسِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَعَلَى إِفْشَالِ خُطَطِهِمْ التي دَبَّرُوهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾. فَيَعْنِي: اذْكُرْ يَا رَسُولَ اللهِ للعِظَةِ وَالاعْتِبَارِ قِصَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِذْ قَالَ اللهُ تعالى لَهُ في نِدَاءٍ رَحِيمٍ: إِنِّي مُنَجِّيكَ مِنْ أَذَى الذينَ مَكَرُوا بِكَ.
قَوْلُهُ تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾. هَذِهِ التَّوْفِيَةُ لَيْسَتْ كَتَوْفِيَةِ بَاقِي الأَنْفُسِ التي قَالَ اللهُ تعالى فِيهَا: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾.
وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ كَلِمَةَ ﴿مُتَوَفِّيكَ﴾ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الوَفَاةِ، بَلْ هِيَ مِنَ التَّوْفِيَةِ فَاللهُ تَعَالَى وَفَّاهُ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنَ البَقَاءِ فِي الأَرْضِ؛ كَمَا تَقُولُ: وُفِّيَ العَامِلُ حَقَّهُ، أَيْ: بِدُونِ نُقْصَانٍ.
وَلَيْسَ في الآيَةِ إِشَارَةٌ إلى أَنَّهُ رَفَعَهُ إِلَيْهِ رُوحَاً، كَمَا تُرْفَعُ أَرْوَاحُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، بَلْ رَفَعَهُ رُوحَاً وَجَسَدَاً، وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَاً * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ﴾.
مَا دَامَ الذينَ مَكَرُوا بِهِ أَرَادُوا قَتْلَهُ رَفَعَهُ اللهُ رُوحَاً وَجَسَدَاً، لِأَنَّهُ مُقَابَلٌ بِالقَتْلِ وَالصَّلْبِ، وَلَا يَصْلُحُ مُقَابِلَاً لَهُمَا رَفْعُهُ بِالرُّوحِ.
وَمِمَّا يُؤَكِّدُ رَفْعَهُ رُوحَاً وَجَسَدَاً مَا وَرَدَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَاللهِ، لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمَاً عَادِلَاً، فَـلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الخِنْزِيرَ، وَلَيَضَعَنَّ الجِزْيَةَ، وَلَتُتْرَكَنَّ القِلَاصُ (جَمْعُ قَلُوصٍ وَهِيَ مِنَ الإِبِلِ كَالفَتَاةِ مِنَ النِّسَاءِ وَالحَدَثِ مِنَ الرِّجَالِ وَمَعْنَاهُ أَنْ يُزْهَدَ فِيهَا وَلَا يُرْغَبَ في اقْتِنَائِهَا لِكَثْرَةِ الأَمْوَالِ وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ القِلَاصُ لِكَوْنِهَا أَشْرَفَ الإِبِلِ التي هِيَ أَنْفَسُ الأَمْوَالِ عِنْدَ العَرَبِ) فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا، وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ، وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى المَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ». وَهَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَيَنْزِلُ بِجَسَدِهِ الطَّاهِرِ مِنَ المَلَكُوتِ الأَعْلَى.


وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:

فَرَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ أَبْطَلَ كَيْدَ الذينَ أَرَادُوا قَتْلَ سَيِّدِنَا عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَرَفَعَهُ تَبَارَكَ وتعالى إِلَيْهِ رُوحَاً وَجَسَدَاً، وَهَذَا الرَّفْعُ فِيهِ إِشَارَةٌ إلى مَعْنَى الكَرَامَةِ وَالإِعْزَازِ وَالحِمَايَةِ، وَأَنَّهُ تعالى حَامِيهِ مِنْهُمْ، وَمَانِعُهُ دُونَهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ قَتْلِهِ.
وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ سَيَمُوتُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ نُزُولِهِ إلى الأَرْضِ، لِأَنَّ الوَاوَ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾. لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، وَالمَعْنَى إِنِّي رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذينَ كَفَرُوا، وَمُتَوَفِّيكَ بَعْدَ أَنْ تَنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ. هذا، والله تعالى أعلم.


التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3


السؤال :

ما تفسير قول الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرَاً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾؟ وهل كان يريد أجراً على دعوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟


الاجابة

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرَاً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾. هُوَ أَمْرٌ وَاضِحٌ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُظْهِرَ تَرَفُّعَهُ وَسُمُوَّهُ عَنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا، لِأَنَّ هَذَا مِنْ شَأْنِهِ وَأَخْلَاقِهِ، فَهُوَ القَائِلُ لِعَمِّهِ: «يَا عَمِّ، وَاللهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالقَمَرَ فِي يَسَارِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، مَا تَرَكْته» كذا في الرَّوْضِ الأُنُفِ.
وَهُوَ القَائِلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» رواه الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَهُوَ القَائِلُ لِقَوْمِهِ عِنْدَمَا عَرَضُوا عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِكُلِّ صُوَرِهَا وَأَشْكَالِهَا وَقَالُوا لَهُ: فَإِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ بِهَذَا الحَدِيثِ مَالَاً فَذَلِكَ لَكَ عَلَى قَوْمِكَ أَنْ تَجْمَعَ لَهُ حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالَاً، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ شَرَفَاً فَنَحْنُ مُشَرِّفُوكَ حَتَّى لَا يَكُونَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِكَ فَوْقَكَ وَلَا تُقْطَعَ الأُمُورُ دُونَكَ، وَإِنْ كَانَ هَذَا عَنْ لَمَمٍٍ يُصِيبُكَ لَا تَقْدِرُ عَنِ النُّزُوعِ عَنْهُ بَذَلْنَا لَكَ خَزَائِنَنَا حَتَّى يُعْذَرَ في طَلَبِ الطِّبِّ لِذَلِكَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مُلْكَاً مَلَّكْنَاكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الوَلِيدِ؟». قَالَ: نَعَمْ.
فَقَرَأَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنَاً عَرَبِيَّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾. حَتَّى مَرَّ بِالسَّجْدَةِ فَسَجَدَ، وَعُتْبَةُ مُلْقٍ يَدَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهَا. رواه ابن عساكر.
فَحَاشَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْلُبَ أَجْرَاً مِنَ النَّاسِ.
إِذَا كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ وَرَسُولٍ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ﴾. فَهَلْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَطْلُبُ أَجْرَاً؟
وَكَيْفَ يَطْلُبُ أَجْرَاً وَاللهُ تعالى قَالَ لَهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرَاً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾؟
أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾. هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ كَمَا يَقُولُ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ، فَيَكُونُ المَعْنَى: لَا أَطْلُبُ مِنْكُمْ عَلَى تَبْلِيغِ رِسَالَةِ رَبِّي جُعْلَاً وَلَا مُكَافَأَةً وَلَا نَفْعَاً مَادِّيَّاً، وَلَكِنْ أَطْلُبُ تَقْدِيرَ صِلَةِ الرَّحِمِ والقَرَابَةِ التي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَتَكُفُّوا شَرَّكُمْ عَنِّي، وَتَذَرُونِي أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَبِّي، فَالمَوَدَّةُ لَيْسَتْ أَجْرَاً، وَقَدْ روى الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: ﴿إِلَّا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى﴾.
قَالَ: فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُرْبَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ، إِلَّا وَلَهُ فِيهِ قَرَابَةٌ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ : «إِلَّا أَنْ تَصِلُوا قَرَابَةً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ».
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ:
فَسَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَاشَاهُ أَنْ يَطْلُبَ أَجْرَاً مِنَ الـبَشَرِ عَلَى تَبْلِيغِ رِسَالَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّ أَجْرَهُ عَلَى اللهِ تعالى ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ﴾.
وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تعالى أَنْ يَقُولَ: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرَاً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾. يَعْنِي: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى تَبْلِيغِ رِسَالَةِ رَبِّي شَيْئَاً مِنَ الأَجْرِ وَالمَالِ، بَلْ أَطْلُبُ مِنْكُمْ أَنْ تَذَرُونِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي، فَلَا تُؤْذُونِي بِمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ القَرَابَةِ، وَطَلَبُ المَوَدَّةِ لَيْسَ أَجْرَاً، وَصَدَقَ اللهُ القَائِلُ: ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾. وَقَالَ تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾. هذا، والله تعالى أعلم.
التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3


السؤال :

ما تفسير قول الله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾؟


الاجابة :

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَقَدْ روى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ لِي رَجُلٌ: قَالُوا للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا أَو لَنَأْمُرَنَّهَا فَلَتُخْبِلَنَّكَ؛ فَنَزَلَتْ: ﴿وَيُخَوِّفُون َكَ﴾.
لَقَدْ كَانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَوِّفُونَ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِن آلِهَتِهِمْ، وَيُحَذِّرُونَهُ مِنْ غَضَبِهَا، عِنْدَمَا يَصِفُهَا بِأَنَهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَا تَمْلِكُ حَوْلَاً وَلَا قُوَّةً، وَكَانُوا يَتَوَعَّدُونَهُ بِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُفَّ عَنْ ذِكْرِهَا بِسُوءٍ فَسَتُصِيبُهُ بِالأَذَى، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾؟
فَإِذَا كَانَ اللهُ تعالى كَافِيَهُ، فَمَنْ ذَا يُخِيفُهُ؟ وَمَاذَا يُخِيفُهُ؟ وَمَنْ قَامَ مَقَامَ العُبُودِيَّةِ، وَقَامَ بِحَقِّهَا حَقَّ القِيَامِ، فَمَنِ الذي يَشُكُّ في كِفَايَةِ اللهِ تعالى لِعَبْدِهِ، وَهُوَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ؟
﴿وَيُخَوِّفُون َكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ كَيْفَ يَخَافُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهُمْ في قَبْضَةِ اللهِ تعالى؟
فالذي يَحْرُسُهُ اللهُ تعالى لَا يُخِيفُهُ شَيْءٌ في الأَرْضِ وَلَا في السَّمَاءِ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ وَاضِحَةٌ لَا تَحْتَاجُ إلى دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، لِأَنَّ اللهَ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ في الأَرْضِ وَلَا في السَّمَاءِ، وَمَشِيئَتُهُ هِيَ النَّافِذَةُ، مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئَاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ﴾. فَاللهُ تعالى هُوَ الذي يَعْلَمُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الضَّلَالَةَ فَيُضِلُّهُ، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الهُدَى فَيَهْدِيهِ، وَإِذَا قَـضَى أَمْرَاً فَلَا رَادَّ لَهُ.
﴿أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ﴾. بَلَى؛ إِنَّهُ عَزِيزٌ قَوِيٌّ يُجَازِي كُلَّاً بِمَا يَسْتَحِقُّ، فَيَنْتَقِمُ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الانْتِقَامَ، وَيَحْفَظُ وَيَرْعَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الحِفْظَ وَالرِّعَايَةَ.
وَهَلْ هُنَاكَ أَحَدٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكْفِيَهُ اللهُ شَرَّ الأَشْرَارِ وَكَيْدَ الفُجَّارِ، كَسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾. بَلَى وَرَبِّي كَافِيهِ.
اللَّهُمَّ بِجَاهِهِ عِنْدَكَ اكْفِنَا شَرَّ الأَشْرَارِ وَكَيْدَ الفُجَّارِ بِمَا شِئْتَ وَكَيْفَ شِئْتَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين. هذا، والله تعالى أعلم.









المجيب : الشيخ أحمد شريف النعسان

التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3













05-23-2022
#2  

افتراضيرد: التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 3

تسلمى وبارك الله فيكى





الكلمات الدلالية (Tags)
3, أحمد, التفسير, الصحى, النعسان], القرآن, س.ج, شريف, [, وعلوم

أدوات الموضوع

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] 2 امانى يسرى محمد القرآن الكريم 2 05-22-2022 09:21 PM
التفسير وعلوم القرآن س.ج [ الشيخ أحمد شريف النعسان] امانى يسرى محمد القرآن الكريم 3 05-22-2022 01:29 PM
نصيحة غالية في فضل قراءة القرآن الكريم/الشيخ د عثمان الخميس قمر المنتدى صوتيات ومرئيات إسلامية 0 06-28-2019 07:56 PM
سورة الجن تلاوة وتفسير الشيخ محمد رفعت همسة حنين صوتيات ومرئيات إسلامية 1 03-18-2019 09:21 PM
في رحاب التفسير مع الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي (سورة الفاتحة)(5) ساليسيا القرآن الكريم 2 05-07-2018 07:58 PM


الساعة الآن 12:31 AM.


Powered by vBulletin Version 3.8.8 Alpha 1
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd Trans
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd.

خيارات الاستايل

  • عام
  • اللون الأول
  • اللون الثاني
  • الخط الصغير
  • اخر مشاركة
  • لون الروابط
إرجاع خيارات الاستايل